وهناك صداقته القديمة للموسيقى الفنان (ريشادر فاجنر) هذه الصداقة التي يعود عهدها إلى أيام الحداثة، ما عمرها إلا إعجاب نيتشه بآثار هذا الفنان إعجاباً تسامى عن إعجاب فنان بفنان إلى امتزاج إنسان بإنسان؛ فقد تقاربا وتعاشرا ردحاً طويلاً من الزمن، كانا خلاله مثلين للثقة العمياء والمودة الراسخة؛ وظلا ثابتين على هذه الصداقة حتى شاءت الظروف أن تفرق بينهما فمضى (فاجنر) إلى (بابروت) حيث أسس فيها داراً للتمثيل، فكان نيتشه يعوده بذات الإعجاب؛ وفي إحدى مطالعاته الأخيرة وصف (فاجنر) كبطل من أبطال العبقرية على النحو الذي ذهب إليه في معلمه (شوبنهاور)، ولكن هذا أدى رسالته عن طريق الفلسفة، وذاك يؤديها عن طريق الفن بأسلوب حي يمازجه شيء من الغموض، هو ذلك العبقري (الديونيزوسي) الذي لا يستطيع أن يعبر عن عالم عواطفه الزاخرة في نفسه بطريقة الكلام والبيان الناقص؛ فهو عبقري جمع إليه جملة فنون متصاحبة: فيه براعة الممثل، وعبقرية الموسيقى، وسمو الشعر؛ تساعده كلها على التعبير عما يخالج نفسه ويغشي حسه، وقد كان هدف (فاجنر) من افتتاحه لدار التمثيل أن يخلق درامة موسيقية يحي بها عهد المأساة عند اليونان؛ وإن تحقيق هذه الدرامة لَيُعد أول محاولة من نوعها في تاريخ أدب الغرب الحديث؛ لأنها محاولة لا ترمي في الحقيقة إلا إلى إحياء العبقرية اليونانية الهامدة، ولو أن هذا العمل قُدر له الانتصار والبقاء، لاعتبر طليعة صادقة من فجر جديد في تاريخ الإنسانية
ولكن نيتشه بعد إنجازه ما كتب بأسابيع قفل راجعاً إلى أهله، وقد تراكم عليه اليأس والضجر، فجعته الأيام في أحلام صباه، وانتصر فيه إعجابه بفاجنر على كل شيء
هذا نيتشه الذي كان قذفه كل خاطرة طفق يدنو من استقلاله الفكري الذي قهره عليه سلطة هذين المعلمين، وهو أحد المتعصبين لأفكارهما وآرائهما، وأحد العاملين على بثها، لأنهما في اعتقاده أكمل ما جاد به المثل الأعلى. ولكن نيتشه أخذ يعمل بينه وبين نفسه على الانفصال من قيودهما. وقد عرفنا كيف انفصل عن (شوبنهاور) في مسائل واضحة من مذهبه. فقد أصبح يرتاب في كل ما ينطوي عليه هذا المذهب من المسائل التصورية، وفي الخاصيات التي يعزوها صاحبها إلى الإرادة، وفي الإرادة التي يزعم صاحبها أنها كنه أكناه الكون، وفي الشيء القائم وجوده بنفسه. وبعد قليل حمل على التشاؤم الذي يدعو إليه