شوبنهاور، فأبى الخضوع والاستسلام ورفض الجنوح للسكون الفلسفي. وبهذا قضى على فلسفة الحكمة (الراكدة) اللابسة لباس اليأس. هو يريد الحقيقة مهما كان ثمنها. ولو كان للعلم فوز في تضحية بني البشر لفعل. ويمدح الحكمة الممزوجة بالمأساة، التي تكفر بعلم ما وراء الطبيعة ثم تخضع المعرفة لها لتخدم أجمل شكل في أشكال الحياة، ويعيد للفن حقوقه التي انتزعها العلم منه، هذه الحقوق التي تخول الإنسان حق التخيل وحق التوهم
ولم يكن حكم نيتشه على (فاجنر) أقل جرأة وقسوة. فقد أخذ يبدي فيه مواضع ضعف يحسبها الناظر ذخائر جمال، ويظهر ما يطغى على روحه من روح الفوضى والاضطراب. ويقارن بينه وبين (باخ وبيتهوفن) اللذين هما أصفى مزاجاً منه. وأصبح في شك من قيمته الفنية التي تدس فيه الموسيقى والشاعر والمفكر. وأخذ عليه تشبثه بالقديم وعودته إلى الآراء القديمة. منها توقانه إلى القرون الوسطى وميله إلى المسيحية والذهول البوذي، وحبه للأشياء الغريبة. أصبح في شك من أي تأثير يحمله (فاجنر) إلى الشعب الألماني
هذا نيتشه الذي كان يرى في موسيقى (فاجنر) المثل لأسمى قد انقلب عليها وجحد بها، فما هي علة هذا الانقلاب؟
يقول نيتشه جواباً على هذا السؤال أثناء تحدثه عن شوبنهاور (إننا نخاله فيلسوفاً: ثم نرى: إذا خدع في الأسلوب الذي أبدى به ملحوظاته فإن هذه الملحوظات لا يشوبها خلل. لأن منازل هذه الملاحظات لا خلاف فيها، فهو كفيلسوف يُعلِّم قد يكون مخطئاً مائة مرة. ولكن شخصيته ذاتها لا تظهر إلا على حقيقة، مرتدية أزياء الحقيقة. . . وههنا مجال النظر والتأمل؛ ففي الفيلسوف شيء لا تنطوي عليه الفلسفة، هذا الشيء هو الذي يخلد الفلسفة ويولد العبقرية)، وفي هذا الرأي يكاد يتبين لنا هوى نيتشه وميله لهذين الرجلين، فهو قد مال إليهما بآثارهما والتعصب لهما. ثم انقلب هذا الميل والتعصب إلى الآثار إلى إعجاب مجرد بالشخصية، فأحبهما كرجلين عبقريين منفصلين عن آثارهما. ثم عمل على أن يتجنب كل ما يعكر هذه الصداقة أو يشوش أسبابها، ولكنه اضطر إلى نقد مالا يوائم فكرته نقداً عاماً، وأخيراً اقتربت تلك لساعة التي وجد فيها أن الفواصل التي تفصله عنهما هي أكبر من أن تُخنق
وألفى أن في سكوته عنها خيانة لنفسه، فبدأ ينقد آثارهما ويظهر أخطاءهما. وهو في كل