أقطار، وتعزل أمة عن أمة. ولا يزال الحال كذلك؛ ولو جبتم هذا الشرق لما شعرتم أنكم في غير مصر - إلا من حيث التقدم المادي - وكانت اللغة العربية هي اللسان الذي لا يحتاجون إلى اتخاذ غيره في حيثما يكونون من هذا الشرق العظيم الذي تقسمونه اليوم أمماً وشعوباً وتقولون هذا مصري وذاك فلسطيني أو شامي أو حجازي. وعلى أن القومية هي اللغة لا سواها. ولتكن طبيعة البلاد ما يشاء الله أن تكون، ولتكن الأصول البعيدة المتغلغلة في القدم ما شاءت، فما دام أن أقواماً لهم لغة واحدة فهم شعب واحد. ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر - إلى الآن على الأقل - إلا بالألفاظ. هي وحدها أداة التفكير، فلا سبيل إليه بدونها؛ ومن المستحيل - الآن - أن نتمثل معنى مجرداً عن ألفاظ تعيّنه. ولكل لغة أساليبها وطرائقها، فأساليب التفكير وطريقة التصوّر خاضعة للأساليب التي يتألف على مقتضاها الكلام في اللغات المختلفة؛ ومن هنا يتفق ويتشابه أبناء كل لغة، ويختلفون عن أبناء كل لغة أخرى؛ وهذا فرق ما بين الإنكليزي والفرنسي، وما بين الإنكليزي والهندي؛ وهذه فيما أظن، حقيقة علمية، ومتى كان الأمر كذلك فكيف نكون إلا عرباً كالعراقيين، والسوريين، والفلسطينيين، والحجازيين، واليمانيين، مع اختلاف يسير تحدثه طبائع هذه البلاد؟)
فعاد الشاب يسألني:(وأصلنا المصري؟ وتاريخ الفراعنة ومدنيتهم؟)
فقلت له:(أكرم بهذا من أصل! وإنها لمدينة باهرة تلك التي كانت للفراعنة؛ وإن العالم كله لمدين بأكثر مما يعرف لهذه الحضارة القديمة، ولكنها بادت واندثرت، ولم يبق منها إلا الأثر المدفون في التراب، والذي لا يمكن أن يؤثر في حياتنا الحاضرة إلا من طريق واحد - هو إشعارنا العزة، وحثنا على استحقاق هذا الميراث الجليل، كما يكون الأب كريماً فيخجل الابن أن يكون كزاً لئيماً وأن يفعل ما ينافي كرم آبائه وطيب أرومتهم؛ ولكن المدينة العربية - أو قل الإسلامية إذا شئت - لم تفن، ولم تبد، ولم تندثر، ولم تفقد إلا القوة ومظاهر السلطان، وهذه تكتسب وتستفاد؛ ولكنها فيما عدا ذلك، بقيت حية، وأبقى ما بقي منها لغتها بكنوزها المختلفة، فهي - أي المدنية العربية - عاملٌ مؤثرٌ بوجوده - لا بذكراه كالعامل الفرعوني. ومن الممكن هدم هذه الحواجز المفتعلة التي يقيمها الغرب ويرفع منها سدوداً بيننا وبين إخواننا)