وكثير ممن أحدثهم هذا الحديث يقتنعون، ولكنهم يرون أنفسهم شباناً، ويستهولون أن يوكل إلى أسنانهم الغضة توثيق ما أوهنه تفريط الشيوخ أو ضيق إدراكهم، ولكني أنا أؤمن بقدرة الشباب على المعجزات، لأن خياله أنشط، وجرأته أعظم وعزيمته جديدة لم تنل منها الخطوب والخيبات، وآماله فسيحة. وإذا كان الشباب لا يقدم، فمن ذا عساه يفعل؟؟
ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهماً لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ، لوجب أن نخلقها خلقاً، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة، وما خير مليون من الناس مثلاً؟ ماذا يسعهم في دنيا تموج دولها بالخلق، وكيف يدخل في طوقهم أن يحملوا حقيقتهم ويذودوا عن حوضهم؟ إن أية دولة تتاح لها الفرصة تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلاً بلحمهم وعظمهم. ولكن مليون فلسطين إذا أضيف إليهم مليونا الشام وملايين مصر والعراق مثلاً يصبحون شيئاً له بأس يتقى. وهذه البلاد ما انفكت زراعية على الأكثر، وجل اعتمادها على حاصلات الأرض، والصناعة فيها ساذجة محدودة، وضيقة النطاق، والزراعة لا تفني الأمم كما تفنيها الصناعة، والمال عصب الحياة وسر القوة، وأخلق بهذه الأقطار العربية أن تظل صناعاتها ضئيلة ما بقيت هي مقسمة موزعة، لأنه لا يوافق الدول الغربية التي لها فيها سلطان أو نفوذ أن تدع صناعاتها تنشط وتنهض، ولا سبيل إلى نشاطها إلا إذا فتحت أسواق مصر، لجاراتها الشرقية، وأسواق الجارات لمصر، ومعقول أن تشتري منا دول أوربا حاصلاتنا الزراعية أو ما يزيد على حاجتنا منها، ولكن صناعتنا لا يعقل أن تجد لها أسواقاً في أوربا، فما بها حاجة إلى ما نصنع بالغاً ما بلغ التجويد فيه، وإنما يتسع الميدان لصناعتنا إذا وجدت سبيلها إلى الشرق، ومثل هذا يقال عن البلاد العربية الشرقية
قد يقال ولكن هذا ليس إلا حلماً، فنقول نعم إنه الآن حلم، لا أكثر، ولعله لا يتراءى إلا لآحاد يعدون على الأصابع في كل بلد، وعسى أن تكون العقبات المعترضة والصعاب القائمة قد صرفت كثيرين عنه بعد أن دار زمناً في نفوسهم، ولكنه، على كونه حلماً، ليس أعز ولا أبعد منالاً مما تحلم به أمم أخرى في هذا العصر؛ وبالأمم حاجة إلى الأحلام، وإلى الإلحاح على نفسها بها حتى تخلد إليها وتتعلق بها ولا تعود ترى للحياة قيمة أو معنى إذا لم تسع لتحقيقها، وإلا فلأية غاية تسعى؟؟ ماذا تطلب من الدنيا؟ وماذا عسى أن يكون مرامها في الحياة إذا لم تحلم بأمل؟ أيكون كل ما تبغي أن تأكل هنيئاً، وتشرب مريئاً، وتنام ملء