فلما رتبت أمر برفعها في الخزائن على ترتيبها، وأن يغلق عليها ويختم بخاتمه، وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك، فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار، وكان ذلك في سنة ٣٥٧هـ؛ فأنفقت جميعها على الحملة التي سيرها إلى مصر؛ ويقال إن الحملة الفاطمية على مصر بلغت نيفاً ومائة ألف فارس، غير الجند المشاة، وهي قوة زاخرة تقتضي لكي تقطع هذا القفر الشاسع بين إفريقية ومصر بعددها وعددها جهوداً جبارة؛ ولقد أذكى منظر تلك القوى الجرارة وأهبتها الهائلة وقت خروجها من القيروان إلى مصر في يوم من أيام ربيع الأول سنة ٣٥٨هـ خيال الشاعر المعاصر ابن هانئ، فأنشد في وصفها:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كأن الأفق سد بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ ودعت كيف أودع ... ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع
إلا أن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع
إذا حل في أرض بناها مدائناً ... وإن سار عن أرض غدت وهي بلقع
تحل بيوت المال حيث محله ... وجم العطايا والرواق المرفع
وكبرت الفرسان لله إذ بدا ... وظل السلاح المنتضى يتقعقع
وعب عباب الموكب الفخم حوله ... ورق كما رقَّ الصباح الملمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع
ولم تمض أسابيع قلائل حتى سرت الأنباء في مصر بمقدم العساكر الفاطمية؛ ولم يكن مشروع الفاطميين في فتح مصر مجهولاً؛ وكان للمعز بمصرَ دعاة يبثون دعوته خفية، ويبشرون بالفتح الفاطمي. ولم يك ثمة ما تخشاه الأمة المصرية من هذا الفتح، خصوصاً بعد الذي شهدته من عسف الجند العباسيين، وطغيان الولاة المستعربين، وما انتهت إليه شؤونها في أواخر عهد الدولة الأخشيدية من الاضطراب والفوضى، وما توالى عليها من محن الغلاء والوباء؛ ولقد كان من سخرية القدر أن يتولى حكم مصر أسود خصي هو كافور؛ وكان لهذا الحادث الفذ في تاريخ مصر الإسلامية، بلا ريب، وقع عميق في جرح الشعور القومي؛ وكانت الدولة الفاطمية تجذب إليها الأنظار بقوتها وغناها؛ وكان سواد الشعب المفكر يؤثر الانضواء تحت لواء دولة قوية فتية، تستظل بلواء الإمامة الإسلامية