كالدولة الفاطمية، على الاستمرار في معاناة هذه الفوضى السياسية والاجتماعية؛ وهكذا ألفى الفاطميون حين مقدمهم إلى مصر، جواً ممهداً يبشر بتحقيق الفتح المنشود على خير الوجوه
ولما ذاعت الأنباء بوصول العساكر الفاطمية إلى الأراضي المصرية، اشتد الاضطراب في مصر، وكثر الخلاف في الرأي، فرأى جماعة من الزعماء والجند من أنصار بني الأخشيد وكافور أن يحاولوا رد الغزاة بقوة السيف، وأخذوا يتأهبون للقتال؛ ولكن معظم الزعماء المصريين آثروا مهادنة الفاتحين والتفاهم معهم، وقر رأيهم على أن يتقدموا إلى جوهر بطلب الأمان والصلح، واتفقوا مع الوزير جعفر بن الفرات على أن يتولى تلك المهمة؛ وسألوا أبا جعفر مسلم بن عبد الله الحسيني أن يكون سفيرهم فأجابهم إلى ذلك؛ وسار على رأس جماعة من وجوه مصر إلى لقاء جوهر، فلقيه على مقربة من الإسكندرية، في قرية تعرف بأتروجه؛ (أواخر رجب سنة ٣٥٨) فاغتبط جوهر بمقدمهم وأجابهم إلى ما طلبوا؛ وكتب لهم أماناً يعتبر وثيقة هامة في الكشف عن غايات السياسة الفاطمية وأصولها المذهبية؛ وفيه ينوه بمزايا الحماية الفاطمية على مصر (بعد أن تخطفتها الأيدي واستطال عليها المستذل؛ الممعنة نفسه بالاقتدار عليها، وأسر من فيها، والاحتواء على نعمها وأموالها، حسبما فعله في غيرها من بلدان المشرق) وأن أمير المؤمنين بادر بتسيير الجيوش المظفرة لمجاهدته وحماية المسلمين ببلدان المشرق مما شملهم من الذل واكتنفهم من المصائب والرزايا، ثم يشير جوهر إلى ما تطرق إلى شؤون الحكم من فساد وإلى ما يعانيه الشعب من مظالم ومتاعب، وإلى ما يزمعه أمير المؤمنين من إقامة العدل وتأييد الشريعة وإصلاح المرافق والشؤون، ويختتم ببيان بعض الأحكام الشرعية الفاطمية وتوكيد الطاعة لأمير المؤمنين
وفي هذا الأمان الذي أصدره جوهر لأهل مصر إشارة ظاهرة إلى خطر القرامطة الذين كانوا قد اجتاحوا الشام يومئذ، وأخذوا يهددون مصر؛ وقد كان الخطر حقيقياً لا ريب فيه، ولو لم يبادر الفاطميون إلى احتلال مصر، لسقطت قبل بعيد فريسة هينة في يد أولئك الغزاة السفاكين؛ بل لم يمض على وجود الفاطميين بمصر زهاء عامين حتى اضطروا إلى لقاء القرامطة في أرض مصر ذاتها ولم يردوهم عنها إلا بعد جهد جهيد