للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في ترجمته ما يؤيد ذلك له، وكم له من مواقف مشهودة مع ملوك عصره وأمرائه، لم تنسه فيها جوائزهم أن ينكر عليهم ما يستحق الإنكار منهم، أو يغضب لنفسه إذا رأى منهم أقل تهاون به. حدث الحسين بن أبي السرى قال: مر القاسم بن الرشيد في موكب عظيم، وكان من أتْيَهِ الناس، وأبو العتاهية جالس مع قوم على ظهر الطريق، فقام أبو العتاهية حين رآه إعظاماً له، فلم يزل قائماً حتى جاز فأجازه ولم يلتفت إليه، فقال أبو العتاهية:

يتيه ابنُ آدم من جهله ... كأن رحا الموت لا تطحنُهْ

فسمع بعض من كان في موكبه ذلك فأخبر به القاسم، فبعث إلى أبي العتاهية وضربه مائة مقرعة، وقال له: يا ابن الفاعلة أتعرض بي في مثل ذلك الموضع؟ وحبسه في داره، فدس أبو العتاهية إلى زبيدة بنت جعفر وكانت توجه له هذه الأبيات:

حتى متى ذو التَّيهِ في تيهه ... أصلحه الله وعافاهُ

يتيه أهل التيه من جهلهم ... وهم يموتون وإن تاهوا

من طلب العِزَّ ليبقى به ... فإن عز المرء تقواه

لم يعتصم بالله من خلقه ... من ليس يرجوه ويخشاه

وكتب إليها بحاله وضيق حبسه، وكانت مائلة إليه فرقت له، وأخبرت الرشيد بأمره وكلمته فيه، فأحضره وكساه ووصله، ولم يرض الرشيد عن القاسم حتى بر أبا العتاهية وأدناه واعتذر إليه

وحدث محمد بن عيسى قال: كنت جالساً مع أبي العتاهية إذ مر بنا حميد الطوسي في موكبه، وبين يديه الفرسان والرجالة، وكان بقرب أبي العتاهية سوادي على أتان، فضربوا وجه الأتان ونحُّوه عن الطريق، وحميد واضع طرفه على معرفة فرسه، والناس ينظرون إليه يعجبون منه وهو لا يلتفت تيهاً، فقال أبو العتاهية:

للموتِ أبناءٌ بهمْ ... ما شئت من صلف وتيه

وكأنني بالموت قد ... دارتْ رحاه على بنيهْ

فلما جاز حميد مع صاحب الأتان قال:

ما أذَلَّ المُقِلَّ في أعين النَّا ... س لإقلاله وما أقماهُ

إنما تنظر العيون من النَّا ... س إلى من ترجوه أو تخشاه

<<  <  ج:
ص:  >  >>