النوى، ضعيف سيئ الحال، متجمل عليه ثياب، فكان يمر بأبي العتاهية طرفي النهار، فيقول أبو العتاهية اللهم أغنه عما هو بسبيله، شيخ ضعيف سيئ الحال عليه ثياب متجمل، اللهم أعنه، اصنع له، بارك فيه، فبقى على هذا إلى أن مات الشيخ نحواً من عشرين سنة، فقلت له يوماً يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ، وتزعم أنه فقير مقل، فلم لا تتصدق عليه بشيء؟ فقال أخشى أن يعتاد الصدقة، والصدقة آخر كسب العبد، وإن في الدعاء لخيراً كثيرا
وقال علي بن مهدي حدثني الحسين بن أبي السرى قال: قيل لأبي العتاهية مالك تبخل بما رزقك الله؟ قال والله ما بخلت بما رزقني الله قط، قيل وكيف ذاك وفي بيتك من المال ما لا يحصى؟ قال ليس ذلك رزقي، ولو كان رزقي لأنفقته
وقال محمد بن عيسى قلت لأبي العتاهية أتزكي مالك؟ فقال والله ما أنفق على عيالي إلا من زكاة مالي، فقلت سبحان الله، إنما ينبغي أن تخرج زكاة مالك إلى الفقراء والمساكين، فقال لو انقطعت عن عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض أفقر منهم
فأما تكسب أبي العتاهية بالشعر فلا شيء فيه عندي مع أخذه بذلك الزهد، لأن الزهد في الإسلام لا يمنع صاحبه من الأخذ بالأسباب والسعي في الحصول على الرزق، والتكسب بالشعر سبب من تلك الأسباب، والشعر فن من الفنون التي لا غنى للدولة عنها، فيجب أن يأخذ حظه من الأموال التي تجبي فيها، ويجب على أرباب الدولة أن يبسطوا أيديهم بالعطاء لرجاله، ليتوفروا على إجادته، ويتضافروا في النهوض به، وليس على الشعراء من حرج إذا لم يصل نصيبهم من ذلك إليهم أن يتلطفوا في الوصول إليه بمدح الملوك والوزراء، وكذا غيرهم ممن في أيديهم تلك الأموال، وإنما يذم التكسب بالشعر إذا بالغ صاحبه في الإلحاح به، وجعله كل غايته من الشعر، فحمله ذلك على الالتواء في سبيله، واتخاذ الشعر أداة شر بين الناس، يقلب الحقائق بينهم، ويجعل في سبيل المال الباطل حقاً والحق باطلاً، والظلم عدلاً والعدل ظلماً؛ وقد تكسب الشعراء بشعرهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له شعراء يمدحونه وينصرون دعوته، ويدافعون عنه أعداءه، ويردون عنه هجائهم بالحق إذا هجوه بالباطل
ولم يكن شاعرنا أبو العتاهية بحيث يصل به التكسب بالشعر إلى هذا الحد، وقد مضى لنا