للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يقيني أنه لو كان فعل، لبلغ الذروة واستولى على الأمد

ويؤسفني أحياناً أن الجاحظ لم يكتب قصة. أما لو كان فعل!؟ أين بين كتاب العرب، من كان أقدر على ذلك منه، وأولى بأن يكون أبرع فيه، وأسحر وأفتن؟؟ من له مثل قدرته على الكتابة ووفاء التعبير بلغته؟ من له مثل فطنته ونفاذ نظره، وفكاهته، وحسن تأتيه، ولطف مداخله، وحذقه في التناول والعرض، ودقة في فهم الناس واستبطانهم، والإحاطة بجوانبهم المتخلفة، والتفطن إلى نواحي الجد والهزل فيهم، وإلى مبلغ اختلاط هذا بذاك، وإرباء ذاك على هذا؟؟

أوليت الجاحظ كان مصوراً!؟ أترى كان يستطيع - لو ساعفته الأحوال وتاحت لذلك فرصة - أن يحول مواهبه إلى هذه الجهة؟؟ أكان يسعه أن يسخر قدرته اللفظية على البيان إلى قدرة من نوع آخر، على الأداء، فيثبت ما يريد على اللوح ويدعه، وهو ساكن لا حركة فيه ولا تتابع للحظاته ومناظره، ينطق بما حمله من المعاني؟ ومن يدري؟ إن مطلب الكاتب غير مطلب المصور، وأداة هذا غير أداة ذاك، وأقل ما بينهما من الفروق ووجوه الاختلاف أن الكاتب يقوم أسلوبه على الحركة والتعاقب، وأن المصور لا يسعه إلا أن يثبت لحظة ويعرضها ساكنة، والسكون لا ينفي التعبير والنطق، وقد يكون أنطق وأبلغ في نطقه من الكلام. فهل كان بيان الجاحظ - وهو فيض لا تصده السدود - يستطيع أن يحتمل الحصر والتجمد والتجمع، والنطق بقوة الإبراز لا بفضل الانسياب أو التدفق؟ أعود فأقول، لا أدري؟

وتمنيت، وأنا أدير عيني في كتبي على رفوفها، لو أن هؤلاء الألمان الذين يتفلسفون علينا بما لا نفهم، بينوا لنا - أو لي أنا على الأقل - ماذا يريدون أن يقولوا. عجيب أمرهم والله! قرأت مرة لأحدهم - وأظنه (هجل) فما أذكر الآن بعد هذا الزمن كله - كتاباً في (فلسفة التاريخ) فخرجت منه كما دخلت، وقلت لنفسي: إما إني أنا حمار، وإما أن هذا الرجل لا يحسن العبارة عما في رأسه، ولكني أفهم عن غيره فلماذا أراني لا أفهم عنه؟؟ وكيف يعقل أن أعجز عن فهم ما أخرجه عقل إنسان مثلي؟ وكان في هذا الكتاب فصل عن المدنية الإسلامية أو عن تاريخ العرب - فقد نسيت - خيل إلى أني فهمت أقله، ودارت الأيام، ووقع في يدي كتاب لرجل أمريكي اسمه (دريبر) عن المدنية ونشوئها، يكتب كما يكتب

<<  <  ج:
ص:  >  >>