عن فلان وعلان، أو تلقفه من أفواه البدو الضاربين في الصحراء؛ والغريب من أمرهم أنهم ينزلون عن مزية كبيرة في سبيل مزية أصغر منها، ذلك أن اختراعاتهم وتصنيفاتهم تدل على خصب في القريحة، وعلى قوة الخيال ونشاطه، بل على وجود ملكات كافية لأن يكون الواحد منهم شاعراً مجيداً أو قصاصاً بارعاً؛ ولكنهم يزهدون في ذلك، ويظلمون أنفسهم، ويقنعون بأن يكونوا رواة فحسب؛ أي حفاظاً ليس إلا؛ أي خزانة مفتاحها في لسانهم؛ وأغرب من ذلك أنهم لو قنعوا بما حفظوا، وتوخوا الأمانة في الحفظ والرواية، لعدوا علماء، ولكانوا محل الثقة والاطمئنان؛ ولكنهم يأبون لأنفسهم منازل الكرامة، ويروحون يزورون ويفترون ويلفقون، ويظهرون في ذلك من الحذق والبراعة ما لو أظهروا بعضه في غيره لرفعهم مقاماً عالياً. فلابد أن يكون هناك عوج في طباعهم والتواء في عقولهم يزينان لهم الطريق الذي سلكوا، ويعدلان بهم عن المنهج الأقوم، ويغريانهم بإهمال مواهبهم، أو سوء استخدامها
وعلى ذكر الاعترافات أقول إني لا أحب أن أقرأ اعترافات لذلك النواسي الفاجر، وليس هو بأفجر من سواه من أصحابه في زمانه، ولكنه أظهرهم لأنه أعلاهم لساناً وأقواهم بياناً، ومثل سيرته لا يزيد الناس فهماً للحياة وحسن إدراك لها، وما في الأمر إلا أنه كان أجرأ فلم يكتب نقائصه، كما يفعل غيره، ولم يحاول أن يستتر لما ابتلى، ولولا أنه شاعر لما شغل بقصصه أحد، والشهرة هي التي جنت عليه فأبرزت جانب السواء والاستهتاك من حياته، ولولا ذلك لكان شأنه كشأن سواه من أمثاله الذين لا يخلو منهم عصر أو شعب. فلو أنه كتب اعترافات لما كانت لها مزية يفيدها الناس، وماذا كان يمكن أن يكون في اعترافاته مما يجهله الناس، وإن كانوا لا يجاهرون بالعلم به. كل ما كنا خلقاء أن نستفيده هو صورة الحياة، كما عرفها وعاناها، فاسق عظيم
وليت دعبلاً ترك لنا مذكرات! فانه متمرد ظريف، وليس أحب إلى المرء من الوقوف على مظاهر التمرد، ولكن التمرد صنيعه في حياته، وصنيع شعره معه - أو أكثره - فلو أنه كتب مذكرات لما أعوز خصومه الحطب
لو ذهبت أذكر ما كنت أتمنى أن أجد فيه كتاباً، لما فرغت، فما لهذا آخر، فحسبي ما بينت، وليكن كإشارة الفهرس