دونه السخف، وقد تكون في هذا مصيباً. ولكن إذا كانت نظرة الشعراء إلى الرياح خفيفة سخيفة فإن نظرات الملاحين إلى الرياح نظرات حادّة جادّة.
وليس من سبيل لإنكار ما للرياح من أياد بيضاء يوم كانت هي القوة الفعالة التي تدفع السفن على أديم الماء. فعلَّمت الناس أن يتعارفوا وأن يتعاملوا ويتعاونوا. وهدتهم لأن يتاجر بعضهم مع بعض وكيف يستطيعون. . ويا للأسف، أن يسطو بعضهم على بعض ويفتك بعضهم ببعض؟.
كانت الرياح هي الوسيلة الوحيدة إلى قطع البحار والتقريب بين البعداء.
ولئن كانت البواخر في غنى عن الرياح فإنها لم تزل تخشاها وترهبها، فإن الرياح ما برحت قادرة على إثارة موج كالجبال ترتعد لها فرائص الرّكب. ويرتاع له الملاّحون.
وهناك سفن جديدة لا تجري على صفحة الماء بل تشق عباب الهواء وتحلق فيه تحليق العقاب. وهذه تخشى الرياح وتحسب لها ألف حساب فلئن كانت دولة الرياح قد دالت على صفحات الماء فإن لها في عالم الطيران سلطاناً لا يزال في أشد عنفوانه.
ثم أن هنالك طائفة من الناس أشد خطراً من هؤلاء جميعاً أو على الأقل تعد نفسها أعظم خطراً من الناس جميعا - وهي طائفة العلماء، علماء الطبيعة الذين يدرسون ظاهراتها، ويحاولون أن يطلعوا على أسرارها. هؤلاء يهمهم أمر الرياح كما يهمهم كل شيء على وجه الأرض وعلى غير وجه الأرض، وهم ينعتونها ولكن لا على طريقة الشعراء فلا يحملونها سلاماً ولا كلاماً بل يقيسون سرعتها بإحكام ويعرفون اتجاهها بدقة ويشرحون لك ما يسببها وما لا يسببها ويعززون أقوالهم بأرقام ورموز يوهمونك بها أن في الأمر أسراراً غامضة وأن صدورهم هي خزانة تلك الأسرار.
والآن فلنتحدث عن الرياح حديث العلم أولاً ثم نعود فنتحدث عنها حديث الأدب وهكذا نقدم للقارئ الغذاء الدسم في البداية تاركين الحلوى إلى النهاية.
فلنذكر أولاً أن هذه الكرة التي تزحف كلنا على سطحها يحيط بها غلاف عظيم من الهواء: غلاف لم يسبر أحد غوره تماماً وقد يكون عمقه مائة ميل وقد يكون مائتين، بل قد يكون أكثر من هذا. وان سألت العلماء كيف عرفوا عمق الهواء ولو على وجه التقريب قالوا لك انهم يرقبون سقوط الشهب حين تندفع نحو كوكبنا العزيز، فإذا رأوها تأخذ في الاحتراق،