وتغلب نزعة التقليد على نزعة التطور في الأدب العربي، واعتزاله غيره من الآداب القديمة والمعاصرة له إلى حد كبير
زاغت نظرة كثير من الأدباء إلى الأدب فحسبوه صنعة لا فناً جميلاً، وظنوا الغرض منه إظهار البراعة لا التعبير عن الشعور والفكر الصادقين، فجاءت آثارهم صناعة وبراعة خالية من المعاني الصادقة العالية والشعور العميق الصحيح: فالمقامات ورسائل الدواوين وأشعار النسيبِ الاستهلالي والمدح والهجاء المأجورين والفخر الأجوف، والمنثورُ والمنظومُ المرصعان بغرائب السجع والجناس والزِّواج والمقابلة وهلم جراً، كل هذه آثار أدبية قليلة الحظ من الصدق والحياة وعمق الفكرة، وإن تكن لها مزية فهي الأسلوب إن كان مُنشئها بارعاً
وهناك عدا ذلك آثار أدبية لم يقدم أصحابها الأسلوب على المعنى، ولكن المعنى فيها تافه بذاته غير ذي بال. فالأدب الرفيع هو ما تحدث عن مشاعر النفس العميقة وتأثراتها بأسباب الحياة، ومشاهد الكون، وتناول حياة الإنسانية على الإطلاق ناظراً في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، معبراً عن آمالها وآلامها، فأين من هذا خمريات أبي نواس ومقذعات جرير والفرزدق ومجونيات بشار؟ لقد كان هؤلاء شعراء صادقي المعاني في كثير مما قالوا رائعي الديباجة، ولكن شعرهم لتفاهة المواضيع التي سخروه فيها أو حطتها لا يرتفع إلى الطراز الأول من الشعر الإنساني، ولا تبقى له قيمة إذا جردته من أسلوبه الجزل
فإذا نظرت إلى كثير من منتجات أولئك الأدباء طالباً تلك النظرة الإنسانية العامة، وراغباً في شيء من الثقافة تضيفه إلى ما عندك، ومنتظراً أن ترى نفسية الأديب وشخصيته مرتسمتين في آثاره لم تصب من ذلك شيئاً، ولم تزدد علماً من دواوين وكتب كاملة بغير فائدة لغوية أو براعة لفظية أو تعبير جديد عن معنى متداول قديم
فإذا ألغيت من آداب اللغة كل الآثار التي لا تتعدى مزيتُها أسلوبها، والتي هزلت معانيها أو كذبت أو لم تزد على التمحل والمبالغة والتخريج والأغراب، لم يبق لك إلا القليل من الأدب السامي الذي اجتمعت له مزايا المعنى القيم والموضوع المهم المفيد والأسلوب المحكم، كأشعار الفحول في الحكمة والوصف الطبيعي والتعبير الصادق عن الوجدان والنسيب الحقيقي والحماسة وما إلى ذلك، وتلك دون غيرها هي الجديرة أن تسمى أدبا