جلية عندما يحدد دارسوها دراستها على ضوء المعرفة (المثالية) لأنه لا يبدو إذ ذاك من الأشياء إلا أجزاؤها المضيئة، أما الأجزاء القاتمة فتبقى بعيدة عن نظر المجتلي، وهكذا ينبغي للمفكر الحقيقي الذي يرغب بأن تكون له فكرة تامة عن الحقيقة أن يتأملها من وجهها الخفي. وفي كتابه (فجر) يُخضع نيتشه لنقده مسألة (القيم والنظم الأخلاقية) التي يقدسها الناس ويحترمون قواعدها، هو يرى أن الأيمان بالواجب ليس بنظام سماوي ولا بتعليم أوحته السماء على البشر، وليس هنالك قاعدة خالدة لتمييز الخير من الشر، وهذه الشريعة الأخلاقية التي تجبر الإنسان على أن يكون صادقاً أمام نفسه في كل شأن، قد تنتهي بالاضمحلال، فقد يغدو الإنسان بالأخلاق ردئ الأخلاق، كما يغدو بالدين زنديقاً، لأن إخلاصه لعقله يزجيه إلى أن يقذف بنقده الأخلاق ذاتها، وأن يكون في ريب من نظمها
والمثل الذي استخلصه نيتشه من الوجود أصبح يدنو الآن من المثل الواقعي، فقد يرى أن كل كائن في الثلاثين من أعوامه الأولى تتولد فيه حركة قد تحتاج الإنسانية إلى ثلاثين ألف سنة لتحقيقها. الإنسان الأول ينشأ في حداثته مؤمناً متديناً، ثم فاقداً لإيمانه في الله والخلود، مأخوذاً بما يزين له العلم النظري، ثم يفقد العلم النظري تأثيره، حين يمسي لا يشبع نفسه ولا يكفي عقله. وفي النهاية تستيقظ فيه الروح العلمية فتقوده إلى دراسة التاريخ والطبيعة درساً صحيحاً. وفي إنسان العلم وفي الروح الحر المفلت من كل وهم زائل والمنعتق من كل اعتقاد باطل، في هذا الإنسان يرى نيتشه الإنسانية المتسامية، فالروح الحر هو متشائم يعتمد على عقله، وهو مفتقر إلى صحة أدبية قوية لا غش فيها، تعمل على الحيلولة بينه وبين الاستسلام إلى اليأس والفناء، وليس من السهل على الإنسان أن يمزق عن جسده أثواب الخطأ الملتفة عليه في كل جانب ليرى الحقيقة ماثلة أمام عينيه، (فالحياة الإنسانية غارقة بأكملها في الأخطاء، وليس في استطاعة الفرد أن ينتشل نفسه من هذه الهاوية إذا لم يكن خصماً قاسياً على ماضيه، كثير السخرية من الإهواء التي تدفعنا إلى الإيمان بالمستقبل وبالسعادة الآتية)، وبهذا يستطيع إذا كان جريئاً صافي الطبع أن يجد في العلم ما يعمل على استنقاذ روحه من اليأس، فان المعرفة المبطنة بالتشاؤم تنقذه من السأم الذي يأكل قلوب سواد الناس. حتى إذا قدر أن يتحرر من كل ما يحترمه الناس زاده تمتعه بالأشياء طرباً وجمالاً، فهو يهوى أن يحلق فوق الاضطراب البشري لا يخفق قلبه رعباً فوق العادات