للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والأوهام والعقائد، هو يحيا لكي يفهم فهماً صحيحاً، وإن أسمى مكافأة عنده هي أن يتفهم في نفسه وفي غيره من الأكوان هذه النواميس الضرورية المتجلية في حركات الكون، وأن يستدل - كالمنجم - على مستقبل الذرية البشرية

(وهل تعتقد بأن مثل هذه الحياة المتجلببة بمثل هذه الغاية باعثة للفناء خالية من اللذة؟. . . . إنك لم تدرك أن السحب الثقيلة، سحب الأحزان هي أثداء ضخمة ترضع منها أفاويق عذبة حلوة، لتقبل الشيخوخة فتفهم بنفسك كيف تلبي نداء الطبيعة، نداء هذه الطبيعة التي توجه العالم إلى السرور. هذه الحياة التي اتخذت الشيخوخة سنامها اتخذت الحكمة ذروتها. . . وهل الحكمة إلا ذلك الشعاع المنبثق من الفرح العقلي. . . الحكمة والشيخوخة عنصران نراهما على قمة طود واحد - هكذا شاءت الطبيعة - قد تقترب الساعة فلا تهتج! ولتكن حركتك الأخيرة - حين يتراكم ضباب الموت - جهداً تبذله وتوقاناً نزاعاً إلى النور، لتكن تنهداتك الأخيرة أنشودة انتصار الحكمة)

ومنذ عام ١٨٨٢ بدأت تتبدل لهجة نيتشه تبدلاً محسوساً على أنه ثابر على نضاله ومحاربته لعقائد جيله حتى النهاية. فكتبه الأخيرة إنما هي غارة شعواء ضد المسيحية وما تحمله من زهد وتقشف. ولكن هذه الصيحات التي يرسلها قوية عالية أصبح يمازجها قليل من الألحان العاطفية؛ ألحان نشيد الانتصار

عاد نيتشه إلى صحته بعد أن قضى أيام علة وسأم، يرتقب الموت في كل فجر يتنفس، وفي كل ليل يتعسعس. عاد إليه رجاء جديد وتنفس جديد، - والأرض أرحب بكثير من كفة الحابل. . .! - يقول في فاتحة كتابه (العلم الطرب): (إن هذا الكتاب هو صيحة طرب بعد أيام طويلة مكفنة بالبؤس والعجز. هو إغنية مرح تتهادى فيها أصوات قوى بعثت بعثاً جديداً وألحان إيمان واسع في الغد وما بعده، في مستقبل مفتوح لي يحمل طيه حوادث قريبة، ينطوي على بحار حرة وغابات جديدة تجذبني نحو ما أستطيع أن أبلغه وأقدر أن أومن به) وهكذا تقشع من سماء نيتشه سحاب اليأس القاتم، فبانت له سماء صافية مضيئة. رحل الشتاء المتجمد وخفق قلب ربيع جديد.

وفي هذه الخطرات الجديدة التي هيمنت عليه عادة الشك في قيمة ذلك الروح الحر الذي بشر به وجعل منه مثالاً عالياً. إن هذا الروح الحر عابس ينقصه روح الطرب، قد جعل

<<  <  ج:
ص:  >  >>