في تيار الهوى، ولم يبال واحد منهم بمكانه في الأدب، ولا بمنزلته الرفيعة في نفوس الأدباء، وآيةُ ذلك أنك لا تجد اثنين من الناقدين يتفقان في الشاعر الواحد على رأيٍ واحدٍ في شعره، ويضعانه في المنزلة التي يستحقها مع غيره، بل تختلف الآراء فيه - بل في البيت الواحد من شعره - اختلافاً ظاهراً إلى حد التناقض، فبينا أحدهم يرى في الشاعر أنه شاعر العربية، إذا بالآخر يقول:(إنه ليس بالشاعر ولا شبه الشاعر)، وهكذا ترى المبالغة والإغراق في طرفي الرأي، مما أسقط النقد الأدبي وأضاع الغرض منه في تهذيب الفن، وأضعف أثره في نفوس الكتاب والشعراء. مع أنه مما لا نزاع فيه أن للذوق الأدبي مقياساً عاماً لا يختلف في أصله؛ وإن اختلف في بعض الفروع التي لا تقدم ولا تؤخر في الحكم على الشاعر في جملته، ولا في منزلته الشعرية بين أبناء جلدته
وثمة أمر آخر هو أمر نكاية في الأدب، وأبلغ في هدمه، وهو أن أكثر هؤلاء النقاد يقيسون الأدب العربي بمقاييس الأدب الغربي، فيطلبون إلى الشاعر المصري العربي أن يحاكي شعراء الغرب في أغراضهم ومعانيهم، وإن كان أكثرها لا يلائم بيئته، ولا يجري مع قانون حياته، ولا يتفق بوجه مع الطبيعة الشرقية؛ وأطالوا في اتهام من خالفهم بالجمود، وضيق الأفق الفكري حتى حاول بعض الشعراء الناشئين تكلف هذه المحاكاة مراغمةً لشعور القلب وإحساس الفؤاد، وإرضاءً لهؤلاء النقاد فخرجت قصائدهم لا شرقية ولا غربية، مشوهة الصور ضعيفة الأثر، كالحة الظاهر، جوفاء الباطن، لم تصور إحساساً في فرد ولا في جماعة، ولم تعبر عن شعور في الأمة ولا في الشاعر نفسه، فلم تسترع هذه القصائد سمعاً، ولم تجتذب إليها قلباً؛ ولولا طائفة قليلة أمسكت بسلسلة البيان أن تنقطع، وآوت إليها طرائد الشعر العربي، وصبرت وصابرت في مدافعة هؤلاء المستغربين في شرقهم، وصانت ذخائر العرب - وأخصها اللغة - حتى تسلمها إلى طائفة أخرى مثلها ممن قوى في نفوسهم شعور القومية ونظروا في الأدب العربي نظرةً واسعةً منصفة، فعرفوا من نفائسه ما لم يعرفه سواهم؛ لولا هؤلاء لأفل نجم البيان العربي عن هذه البلاد، ومات الشعر أو كاد
وقلت: إن آثر النقاد عندك وأجداهم بحثاً على طالب الشعر والكتابة من يعني بالبحث في آثار الكتاب والشعراء واختبار ثمرات قرائحهم، فيميز جيدها من رديئها، وناضجها من فجها، ويُرى القارئ أسباب الإجادة فيما يستجيد من شعر أو نثر فيأخذ بها ومواضع الزلل