وإذا عدمنا مثل هذا الشيخ وحرمت مجتمعاتنا من نظم وافية شاملة للطب النفسي كالنظم الوافية الشاملة للطب الجسمي فلا أقل من أن نوجه النظر إلى أن يعنى كل شخص بناحيته النفسية عناية لا تقل عن عنايته الجسمية. فضحايا أمراض النفوس كثيرون، وصرعى المرض لا يحصون، والالتفات إلى فتك هذا النوع من الأمراض ضعيف فاتر - فهناك صرعى الخوف من الموت ومن الفقر ومن الرؤساء، وهناك صرعى الشك في الدين وفي الحياة وقيمتها وفي كل ما يحيط بهم مما في الأرض وما في السماء، وهناك صرعى الحزن لا يسرهم شيء في الحياة، ويودون أن يبكوا دائماً ويسودون كل منظر يرونه، ويحزنون عند ما يحزن الناس ويحزنون عند ما يضحك الناس، فإذا عدموا أسباب الحزن حلقوها حتى من أعمق منابع السرور - وهكذا تتعدد الصرعى كصرعى السل والسرطان وما إليها - يبدوا فيهم مكروب النفس صغيراً ثم ينمو شيئاً فشيئاً حتى يفترسهم، ثم من العجيب ألا يتوجهوا قليلاً ولا كثيراً إلى قتلها قبل أن تقتلهم وهزيمتها قبل أن تهزمهم، كأنهم يظنون أن المرض فوق أن يعالج والأمر أيأس من أن يفكر فيه.
لأمراض النفس أسباب عدة: من حالة صحية، وبيئة اجتماعية، وبذور ميكوربات تسرب إليها من كتب قرأتها، ومقالات طالعتها، وأحاديث سمعتها، ومناظر رأتها إلى غير ذلك، ولعل أهم مرض نفسي يصيب طائفة المثقفين سببه أنهم لا يريدون أن يكونوا أنفسهم ويريدون أن يكونوا غيرهم.
لقد خلقت النفوس البشرية متشابهة في بعض جهاتها، مختلفة في بعض جهاتها، شأنها في ذلك شأن الوجوه، فكل وجه فيه عينان وأنف بين العينين وفم تحت الأنف وذقن تحت الفم ولكن مع هذا الاشتراك لكل إنسان وجهه الخاص به لا يشاركه فيه غيره، وكذلك النفوس تشترك في اللذة والألم، وتشترك في أهم منابع اللذة ومنابع الألم وتشترك في الغرائز الأساسية وما إلى ذلك، ومع هذا فلكل إنسان نفسه الخاصة، لا يساويها في جميع وجوهها غيرها.
ومما ألاحظه أن كل إنسان إن سارت على فطرتها، وعرفت أن تتغذى بما يناسبها، وطلبت لها مثلاً أعلى يتفق وطبيعتها، عاشت في الأغلب راضية مطمئنة، فان فطرتها وحاولت أن تكون غيرها أظلمت وأصابها الحزن والقلق والاضطراب، وفقدت سعادتها وهناءها،