المبصرة! تلك هي العين التي تكشف لنا عن الموسيقى الكامنة في الخلق. عن الفكرة الجليلة التي قد ضمنها الطبيعة مخلوقاتها جميعاً. على أن الشاعر لأجل أن تكون لديه هذه الهبة يجب أن يكون عنده من العقلية القوية ما فيه الكفاية. فان امتلك الرجل عقلية قوية كان شاعراً في كلامه. فان لم يستطيع هذا كان - وذلك أفضل وأجدى - شاعراً في أفعاله.
وكتب (سير والتر رولي) عن شكسبير فقال: (إن القوة خياله لا تسمح له بأن يجد الراحة في فكرة أو ناحية واحدة فهو في استطاعة أن يدرس حياة الرجال مثلما يدرس المرء الحياة على ظهر باخرة. وهو دائم الاهتمام بما يحدث يومياً بين أفراد العائلة الإنسانية، غير أن للصورة دائماً في عقله أساس واحدة تركيز عليه، ذلك أنه دائم التفكير في البحر - البحر الذي لا يعرف لقوته حداً والذي لا يسره عقل أو منطق، والآن من الواضح أن النقاد الثلاثة مشتركون جميعاً في تحديد الصفات الأساسية التي تكون عظمة شكسبير كما أنه من الواضح أيضاً أنهم يختلفون كل الاختلاف في الطرق التي سلكوها في نقدهم. فمع (تين) نرى أن شاعرية شكسبير إنما من أنه أبعد الناس عن المنطق العادي وتفكير القدماء المتزن، ومن (كارليل) نعلم أن ميزة الشاعر الأساسية في أن تكون عقليته ممتلئة ناضجة، ويبدو من هذا أن كلا من الناقدين يعتقد أن النقد إنما هو سجل روح الناقد ونفسه، (فتين) العاطفي القوى الخيال يزدري المنطق العادي، ويرى فيه عقبة في سبيل الشعر، و (كارليل) الذي كان اعتماده في حياته على فكره دون عاطفته يرى أن العقل وحده جدير بأن يخلق الشاعر وأن يجعله مبدعاً عظيماً.
أما (رولي) فهو لا يفعل شيئاً من هذا، فهو يهتم فقط بأن يوضح ويعلق، وأن يشرح ويعلل دون أن يعنى بالمدح أو بالخط من قيمة الأشياء، ونحن في الواقع لا نستطيع أن نحكم ما إذا كان تفكير شكسبير الدائم في البحر، البحر الذي لا يعرف لقوته حداً والذي لا يسيره عقل أو منطق، يزيد في شاعرية الشاعر أو ينقص منها. ونحن لا نرى النقد هنا سجلاً لروح الناقد ومشاعره، وإنما ما نراه هو وضوح في الأسلوب ودقة في الوصف وقوة في المنطق، وتلك هي مدرسة أخرى من مدارس النقد تختلف عن مدرسة (أوسكار وايلد) ينحو النقد فيها منحى البحث العلمي حيث لا نجد لمشاعر الناقد نفسه أو لإحساسه الشخصي إزاء ما ينتقده أثراً من الآثار.