بأن أثر مشاهدات أوربا بادٍ فيه، ولكن روح الحب، وطلب الجمال، وترحيب العشق لا تزال متجلية فيه كما كانت في الدور الأول. وقد حدثت فيه حادثة، وهي أن الأبحاث العلمية سطت مرة بنفسية الشاعر، فأراد أن يترك الشعر ويتوب عنه وينصرف إلى العلم، فمنعه عن ذلك صديق قديم له كان حينئذ في لندن، وحاول إقناعه فلم يقتنع، وأخيراً اتفقا على أن يستشيرا فيه أستاذه السر آرنلد. فأيد آرنلد رأى صديقه فعدل عن إرادته. وأكبر ميزة لهذا الدور أن بدأت أفكاره الشعرية تعلو وتتسع حتى ضاق عنها نطاق اللغة الأردية الحديثة السن فمال إلى الفارسية وبدأ يعبر بها عن إلهامه الشعري.
وأما الدور الثالث فيبتدئ من بعد رجوع الدكتور من أوربا إلى الهند، أي من سنة ١٩٠٨ إلى الآن، وهو الأهم، إذ فيه تدرج شعره في معارج الكمال وتسم سنام المجد وبلغ من دقة المعاني وعمق الفكر وحسن البيان غاية لم تبلغها الآمال ولا نالتها الأماني. وفيه حلت السكينة والطمأنينة في روح الشاعر محل التوقان والاضطراب، كأنها أدركت ذلك الغائب المجهول الذي حنت إليه طويلاً ونزعت إليه سنين، وفيه خف عن نفسيه الشاعر سلطان المحبة والجمال، وقام مقامه توقان الحكمة والكمال، وفيه جادت قريحة الشاعر بما لم تجد في الدورين السابقين، إذ ظهرت إلى الآن سبعة دواوين، ونحن ندعو الله أن يمد في حياته ويوفقه أكثر من ذلك، وفي هذا الدور أيضاً تمكن الشاعر من إبراز معالم فلسفته في شعره للعالم، وفيه تحققت رسالة شعره للعالم الإسلامي والشرق إذ كان في نفسه تتساجل روحان: روح المحب للجمال والمحبذ للعشق، وروح المسلم الشرفي المتحمس الثائر. فكان في الدورين الأولين الحظ الأوفر وفي هذا الدور للثانية.
حينما نحاول البحث عن العناصر التي تكونت منها نفسية الشاعر وشعره نجد أنهما قد تكونان من عناصر جمة، منها ما هو هبة من الله كالعبقرية والذكاء، ومنها ما هو وراثي غير كسبي، ومنها ما هو ثقافي كسبي، ومنها ما يرجع إلى البيئة سواء كانت جغرافية أم اجتماعية. فهذه الأصناف الأربعة من العناصر هي دعائم نفسية الشاعر ووطائد شعره.
أما العناصر الموهوبة مثل العبقرية وغيرها فلا يقدر الإنسان على الكشف عن حقائقها، ولا الفحص عن دقائقها، وما يقدر عليه هو وصف ظواهرها بالمقارنة. فإذا قارنا ظواهر عبقرية الدكتور وذكائه بالشعراء الآخرين نجد أنه فريد زمانه، وقريع دهره، قد أوتى