للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ومشكور أنت عليه فأقم، فقال إن هذا مما يشتد عليَّ، قلت: ولم يشتد عليك ما يسهل على أهل الأدب؟ فقال لمعرفتي بضيق صدرك، فقلت له وأنا أضحك وأعجب من مكابرته: (رمتني بدائها وانسلت)، فقال: دعني من هذا واسمع مني أبياتاً، فقلت: هات، فأنشدني:

نغًّص الموتُ كلَّ لذة عيش ... يا لقومي للموت ما أوْحَاه

عجباً إنه إذا مات ميْتٌ ... صدَّ عنه حَبيِبُه وجفاه

حيثما وجَّهَ أمرؤٌ ليفوتَ ال ... موتَ فالموتُ واقفِ بحذاه

إنما الشيب لابن آدم ناعٍ ... قام في عارضيه ثم نعاه

من تمّنى المُنَى فأغرق فيها ... مات من قبل أن ينال مُنَاه

ما أذلَّ المقِلَّ في أعين النا ... س لا قلاله وما أقْمَاه

إنما تنظر العيون من النا ... س إلى من ترجوه أو تخشاه

ثم قال لي: كيف رأيتها؟ فقلت له: لقد جودتها لو لم تكن ألفاظها سوقية. فقال: والله ما يرغبني فيها إلا الذي زهدك فيها

وقد ذكر ابن رشيق القيرواني أبا العتاهية فيمن كان يذهب إلى سهولة اللفظ، ويعني بها مع الإجادة وملاحة القصد، وأنه اجتمع يوماً مع أبي نواس والحسين بن الضحّاك الخليع، فقال أبو نواس: لينشد كل واحد منكم قصيدة لنفسه في مراده من غير مدح ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية:

يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فسيَّروا الأكفانَ من عاجل

ولا تلوموا في اتباعِ الهوى ... فإنني في شُغُلٍ شاغل

عيني على عُتْبَةَ منهلَّهٌ ... بدمعها المنسكب السائل

يا من رأى قبلي قتيلاً بَكى ... من شدة الوجد على القاتل

بسطت كَفّي نحوكم سائلاً ... ماذا تردُّون على السائل

إن لمُ تنيلُوُه فقولوا له ... قولاً جميِلاً بَدَلَ النائل

أو كُنْتُم العام على عُسرةٍ ... منه فمُنُّوه إلى قابل

فسلما له وامتنعا من الإنشاد بعده، وقالا له: أما مع سهولة هذه الألفاظ، وملاحة هذا القصد، وحسن هذه الأشارات، فلا ننشد شيئاً. قال ابن رشيق: وذلك في بابه من الغزل جيد أيضاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>