ولم يكن أبو العتاهية في ذلك يتكلف شيئاً لا تواتيه فيه سجيته، بل كان يجري فيه على سجية مواتية، وشعر مطبوع لا تكلف فيه ولا تصنع، وقد بلغ من سهولة الشعر عليه أنه كان يقول: لو شئت أن أجعل كلامي كله شعراً لفعلت، وقيل له: كيف تقول الشعر؟ قال: ما أردته قط إلا مثل لي، فأقول ما أريد، وأترك ما لا أريد. وحدث عبد الله بن الحسن قال: جاءني أبو العتاهية وأنا في الديوان؛ فجلس إليّ، فقلت: يا أبا إسحاق، أما يصعب عليك شيء من الألفاظ فتحتاج فيه إلى استعمال الغريب كما يحتاج إليه سائر من يقول الشعر، أو إلى ألفاظ مستكرهة؟ قال: لا، فقلت له: إني لأحسب ذلك من كثيرة ركوبك القوافي السهلة، قال: فاعرض عليّ ما شئت من القوافي الصعبة، فقلت: قل أبياتاً على مثل البلاغ، فقال من ساعته:
أيُّ عيش يكون أبلغ من عي ... شٍ كَفافٍ قوتٍ بقدر البلاغِ
صاحبُ البغي ليس يسلم منه ... وعلى نفسه بَغَى كلُّ باغي
ربَّ ذي نعمة تَعرَّض منها ... حائلٌ بينه وبين المساغ
أبلغَ الدهرُ في مواعظه بل ... زاد فيهنَّ لي على الإبلاغ
غبنتني الأيامُ عقلي ومالي ... وشبابي وصحتي وفراغي
وكان أبو العتاهية مع هذا أراد تفخيم لفظة ومعناه لم يقصر به ذلك عن غيره، ومضى فيه كأنه من أولئك الشعراء الجاهلين أو المخضرمين أو الإسلاميين، وقد قال مسعود بن بشر المازني: لقيت ابن مناذر بمكة، فقلت له: من أشعر أهل الإسلام؟ فقال: أترى من إذا شئت هزل، وإذا شئت جد؟ قلت: من؟ قال: جرير حين يقول في النسيب:
إن الذين غَدَوْا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معينا
غَيَضْن من عَبراتهنَّ وقلن لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا
ثم قال حين جد:
إن الذي حَرمَ المكارمَ تَغْلباً ... جعل النبوةَ والخلافة فينا
مضرٌ أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا آل تَغلبَ من أب كأبينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئتُ ساقكمُ إلي قطينا