للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مهدي، قال: حدثني ابن أبي الأبيض، قال: أتيت أبا العتاهية فقلت له: إني رجل أقول الشعر في الزهد، ولي فيه أشعار كثيرة، وهو مذهب استحسنه لأني أرجو ألا آثم فيه، وسمعت شعرك في هذا المعنى فأحببت أن أستزيد منه، فأحب أن تنشدني من جيد ما قلت، فقال: أعلم أن ما قلته ردئ، قلت: وكيف؟ قال: لأن الشعر ينبغي أن يكون مثل أشعار الفحول المتقدمين، أو مثل شعر بشار وغبي هرمة، فان لم يكن كذلك فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه مما لا يخفى على جمهور الناس مثل شعري، ولا سيما الأشعار التي في الزهد، فان الزهد ليس من مذاهب الملوك، ولا من مذاهب رواة الشعر، ولا طلاب الغريب، وهو مذهب أشغف الناس به، الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء وأصحاب الرياء والعامة، وأعجب الأشياء ما فهموه، فقلت: صدقت، ثم أنشدني قصيدته:

لِدوا للموت وابنوا للخراب ... فَكلُّكُم يصير إلى تَباب

ألا يا موتُ لم أر منك بُدَّاً ... أتيتَ وما تحيفُ وما تحابي

كأنك قد هجمت على مشيبي ... كما هجم المشيب على شبابي

قال: فصرت إلى أبي نواس فأعلمته ما دار بيننا، فقال: والله ما احسب في شعره مثل ما أنشدك بيتاً آخر، فصرت إليه فأخبرته بقول أبي نواس، فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:

طولُ التعاشرَّ بين الناس محلول ... ما لابن آدمَ إن فتشتَ معقولُ

يا راعِيَ الشاءِ لا تغفل رعايتها ... فأنت عن كل ما أسترعيت مسئول

إني لفي منزل أعمره ... على يقين بأني عنه منقول

وليس من موضوع يأتيه ذو نفَسِ ... إلا وللموت سيفٌ فيه مسلول

لمُ يشغَل الموتُ عنا مذ أعدَّ لنا ... وكلُّنا عنه بالذات مشغول

ومن يمت فهو مقطوع ومجتنب ... والحيُّ ما عاش مَغشيٌ وموصول

كلْ ما بدا لك فالآكال فانية ... وكلُّ ذي أكل لا بد مأكول

قال: ثم أنشدني عدة قصائد ما هي بدون هذه، فصرت إلى أبي نواس فأخبرته فتغير لونه، وقال: لم أخبرته بما قلت؟ قد والله أجاد، ولم يقل فيه سواءاً.

والذي أراه في ذلك أن أبا العتاهية كان يريد بهذا صرف هذا الرجل عنع، لأنه كان معتزا بشعره معتدا به، وقد قارع به بشاراً وغيره لدى الملوك والأمراء فخار به قصب السبق،

<<  <  ج:
ص:  >  >>