تتبدد حيناً فلا تكون شيئاً، وتجمع حيناً فتكون مرة شيئاً مقلوباً، وأخرى شكلاً ناقصاً، وتارة هيئة مشوهة لكانت هي كل امرأة من هؤلاء المسكينات اللواتي يمشين في المسرات إلى المخاوف، ويعشن بمقدمات الموت، ويجدن في المال معنى الفقر، ويتلقين الكرامة فيها الاستهزاء، ثم لا يعرفن شاباً ولا رجلاً إلا وقعت عليهن من أجله لعنة أبٍ أو أم أو زوجة
وتلك الواحدة التي أومأت إليها كانت حزينة متسلبة فكأنما جذبها حزنها إلي، وكانت مفكرة فكأنما هداها إلي فكرها، وكانت جميلةً فدلها علي الحب، وما أدري والله أي نفسينا بدأت فقالت للأخرى أهلاً. . . ورأيتها لا تصرف نظرها عني إلا لترده إلي ثم لا ترده إلا لتصرفه، ثم رأيتها قد جال بها الغزل جولةً في معركته. . . فتشاغلت عنها لا أريها أني أنا الخصم الآخر في المعركة. . .
بيد أني جعلت آخذها في مطارح النظر وأتأملها خلسةً بعد خلسةٍ في ثوبها الحريري الأسود، فإذا هو يشب لونها فيجعلها يتلألأ، ويظهر وجهها بلون البدر في تمه، ويبديه لعيني أرق من الورد تحت نور الفجر
ورأيت لها وجهاً فيه المرأة كلها باختصار، يشرق على جسم بضٍ ألين من خمل النعام، تعرض فيه الأنوثة فنها الكامل؛ فلو خلق الدلال امرأة لكانتها
وتلوح للرأي من بعيد كأنها وضعت في فمها (زر ورد) أحمر منضما على نفسه. شفتان تكاد ابتسامتها تكون نداءً لشفتي محب ظمآن
أما عيناها فما رأيت مثلهما عيني امرأةٍ ولا ظبية؛ سوادهما أشد سواداً من عيون الظباء؛ وقد خلقتا في هيئة تثبت وجود السحر وفعله في النفس؛ فيهما القوة الواثقة أنها النافذة الأمر، يمازجها حنان أكثر مما في صدر أم على طفلها. وتمام الملاحة أنهما بهذا التكحيل، في هذه الهيئة، في هذا الوجه القمري
يا خالق هاتين العينين! سباحنك سبحانك!
قال الراوي:
وأتغافل عنها أياماً، وطال ذلك مني وشق عليها، وكأني صغرت إليها نفسها، وأرهقتها بمعنى الخضوع، بيد أن كبرياءها التي أبت لها أن تقدم، أبت عليها كذلك أن تنهزم
وأنا على كل أحوالي إنما أنظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعاً في الهواء،