خدمة هذه السياسة وإن قصد بها كذلك إلى أغراض علمية بحتة. وما أحسبك تخالفني يا صديقي في أن كتاب (وجهة الإسلام) الذي ألفه خمسة من كبار المستشرقين المشتغلين بالأدب الحديث في بلاد الشرق المختلفة إنما هو كتاب سياسي مداه بحث ما وصلت إليه أوربا مما يسميه الأستاذ (جب) تغريب الشرق، وما يرجى لهذا (التغريب) في المستقبل من نجاح. وأنا لا أعيب هؤلاء العلماء المحترمين بهذا بل أحسدهم عليه أعظم الحسد. فهم به يخدمون أوطانهم ويخدمون العلم ويخدمون الحقيقة من ناحية سياسة بلادهم ومن ناحية الحضارة الغربية التي يريدون ان تظل المدنية الحاكمة في العالم. وهذه الخدمة الجليلة التي يقومون بها لأوطانهم وللعلم ولحضارتهم حقيقة علمية يسرّ لي اشتغالي بالسياسة الوقوف عليها. ولو أنك انقطعت للسياسة يا صديقي انقطاعي وأفنيت من تفكيرك فيها ما أفنيت أنا لوافقتني على هذه الحقيقة ولم تتهمني بالإسراف إذ علمتها، وما ذكرت أنا في مقدمة (ثورة الأدب) عن الحضارة التي نعمل جميعا لبعثها، وهل هي حضارة إسلامية أم حضارة عربية، واهتمام بعض الطلاب والطالبات الأوربيين برأينا في ذلك وحرصهم على إقناعنا بأنها حضارة عربية وليست حضارة إسلامية، إذاً صدق ظني، ففيه جانب من السياسة يعادل ما فيه من جانب البحث عن الحقيقة العلمية.
أما إني أسرفت متأثراً باشتغالي المتصل بالسياسة في حسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج فاحسب صديقي يوافقني على انه إذا زالت عوامل الفتور والضعف مما أشرت إليه في تضاعيف كتابي لما كان فيما قلت شيء من الإسراف. وإذا جاء اليوم الذي ينفسح فيه عندنا ميدان العلم وتزول كل العوائق التي تقف اليوم في سبيله والذي تتقرر فيه حرية العاطفة وحرية الحس وحرية الأدب، والذي يبعث فيه تراث هذا الشرق العظيم، والذي يكثر فيه المتعلمون تعليما صحيحاً منا كثرة تسمح بالتخصص في الأدب والانقطاع لفرع من فروعه، يومئذ يكون القول بقصورنا في الخيال وفي القوة على الإنتاج تجنياً على هذه البلاد وعلى الحقيقة، هذا إلا أن تكون يا صديقي من الذين يقولون بان الأوربيين ينتمون إلى الجنس الآري وهم لذلك أرقى منا ونحن ننتمي إلى الجنس السامي بالطبع. وما أحسبك تقول بهذا أو تعتبره حقيقة كما يود بعض العلماء في أوربا اعتباره بل أحسبك ترى هذه حقيقة سياسية يراد بترويجها تغريب الشرق والقضاء عليه بان يبقى