قلت يا بني لم هذا الإلحاف؟ وفيم الإعنات؟ وما أريد أن أبكر بالغصص إلى قلبك. أعلم أن هؤلاء الإنجليز دخلوا مصر بحجة الدفاع عن عرش الخديو وحمايته، ولم يكن ثمة تهديد لعرش ولا هدر لحياة؛ وما زالوا يجدون في كل يوم سبباً لأطالة الضيافة، فهم يأخذون هذه الأرض بلا أجر كما احتلوا البلاد. قال، لو أننا نشتري منها قطعة صغيرة ونبني بيتاً صغيراً فلا نؤدي أجرة في كل عام. قلت: فكرة اقتصادية وجيهة، ولكن الإنجليز؟ قال: سأخرجهم حين أصبح ضابطاً. ألم تقل بالأمس إنك ستدخلني المدرسة الحربية؟
قلت: صدقت! ولقد قلت وأسأل الله إذا امتد الأجل أن توفق لخدمة البلاد، وادعوا الله لك ولإخوانك بحياة حرة في جو حر
وأردت أن ينقطع الحديث المشؤوم وعملت على تغيير مجراه فاستعجلته لنخرج على نية شراء بعض ما يلزمه، وسرنا نقصد محطة الترام فوجدنا حانوتاً مغلقاً وقد تأخر عني خطوة وانشغل به بصره، فلما ذكرته بالسير قال: ألم تر؟ قلت ماذا؟ قال دكان الخواجه (خ)، والله يا بابا لقد بكيت أمس إذ قلت لعسكري البوليس صباح أمس حين وقف صاحب الدكان يحكي له ما جرى - خذ العساكر إلى القرقول فلم يفعل!!
سأني أن يستمر الحديث على هذه الوتيرة وقلت يا بني لقد تردد الدمع في مآقي الوزير شريف باشا من قبل حين رأى صفوف الاحتلال في طريق الخديو من المحطة إلى عابدين! ولا شك أنهم سيخرجون يوما بأذن الله، ولن ترى من ذلك شيئاً؛ ولقد رأى أجدادك أبشع من ذلك وأشنع، فقد روى (هنس زيزنر) أنهم كانوا يقتلون جرحى المصريين في التل الكبير؛ وما زلنا نرى من أحفادهم من يحتمعون بهم ومن يثقون. فيوم لا ترى واحداً من هذا الفريق لا ترى على أرض الوطن محتلاً، ولولاه ما لحق القاهرة ذلة ١٤ سبتمبر سنة ١٨٨٢
دارت الأيام، وعدت إلى سيدي بشر وفي مكتبي الأول أكتب رسالتي وأشخص بين الفينة والفينة إلى البحر فلا أرى معسكراً يحجب، ولا علامة تثير الغصص وتذكي الألم، قلت مع الرسول الأمين عليه صلاة الله وسلامه:(ويعجبني الفأل)
لعل ما ترى من استنامة للرفاهية أشبه بهذا الطلاء الزائل الذي كاد يغير من منزل (لافرلا) - لعل الجفوة التي ترى بين رجالنا وشبابنا للمبادئ القويمة أشبه بتلك التي كنا نرى