كل حال، ماذا أقول؟ بل أنت جد. فلم يختلف إليك جيل واحد وإنما اختلفت لديك أجيال، ولم تتخرج عليك طبقة من الكتّاب، وإنّما تخرجت عليك طبقات. ولست أدري ماذا يغيضك من الشيخوخة. وماذا يسوؤك منها؟ ولم تكره أن يراك الناس كما أنت؟ بل لم تكره أن ترى نفسك كما أنت. ولم تريد أن تطمع في غير مطمع؟ وتطلب ما لا سبيل إليه؟ فليس التصابي من الأشياء التي تحب أو يرغب فيها الرجل المحتشم، وقد عرفتك رجلا محتشما فأجعل نفسك حيث أراد الله أن تكون. قال في لهجة ماكرة وصوت عابث: فأنت شيخة إذن، فقد كتبت الكتب وأذعت الرسائل ودبجت الفصول، منذ عشرين سنة. قالت: بل منذ خمس عشرة سنة. قال: بل منذ عشرين. قالت: لم أكن أكتب حين شبّت الحرب. قال: بل كنت تكتبين، وإنّي لزعيم أن أذكرك بعض ما كتبت قبل أن تشب الحرب. قالت: فإنّي لم أكن قد بلغت الخامسة عشرة.
قال: لن أقول إنّك شيخة في السن، ولو قلت ذلك لكذّبني ما أرى وما أسمع. فعلا وجهها احمرار شديد، ومسّت يده في رفق كأنّما تريد أن تضربه. وهي تقول: متى تدع هذا العبث. ومضى هو في الحديث.
فقال: أنت على نضرة شبابك شيخة في الأدب. قد كتبت منذ زمن طويل، وعلّمت أجيالا مختلفة من الشباب وتخرّجت عليك طبقات مختلفة من الكتّاب. قالت تعال نتفق. لسنا شيخين ولا شابّين، وإنّما نحن شيء بين ذلك وأنت أدنى إلى الشيخوخة وأنا أدنى إلى الشباب. قال ولا هذا، فلا بدّ من أن نتفق على معنى الشيخوخة في الأدب، فليس يكفي أن نكون قد اصطنعنا الأدب منذ زمن طويل. وأثرنا في أجيال مختلفة من الكتّاب لنكون شيوخا، وليس من الحق أن كل أب شيخ، ولا أن كل جد شيخ. فقد نكون آباء، وقد نكون أجدادا، ولكننا على ذلك لسنا شيوخا، إنّما الشيخوخة ضعف. وما أرى إلاّ أنّ الشيخ هو الذي أخذه الضعف، وبلغ منه العجز والفتور، فاضطر إلى العقم، وحيل بينه وبين الإنتاج. أفترين إنّا قد انتهينا إلى هذه الحال؟ إنّك تكتبين في كل يوم، وإنّي أكتب في كل يوم. والناس يقرؤون لك ويقرؤون لي، والناس يعجبون بك ويرضون عن بعض ما أكتب. قالت بعض هذا التواضع، ولكنه مضى في الحديث فقال: وما زالت آمالك وآمالي في الأدب أبعد من أن تحد، وأوسع من أن تحصر، وما زلنا نتم الفصل أو الكتاب وإذا نحن نفكر في