للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الإنسان بطبيعته وإرادته يجنح إلى إحسان لا إلى شقاء

إن الشفقة هي فضيلة الأنفس المتوسطة، تتدرب عليها دون وازع ولا مانع، حتى إذا نزلت هذه الشفقة ساحة النبيل أصبحت علامة الانحطاط، وذهاب الكرامة، وخساسة الأصل. إن النبيل يكتم آلامه وهمومه ولا يبوح بها. يصرف عن نفسه الإرادة الحسنة كما يصرف الإرادة السيئة، والإنسان المتألم القبيح قد يكون على حق في كرهه للشهود الذين يبوحون بسر فاقته وقبحه وتعاسته. هؤلاء الشهود الذين لا يستحون من أن ينظروا إلى ما كان ينبغي له أن يظل خفيا عن العيون، فيحملون هذا الشقي منه شفقة ما طلبها وما تمناها

إن الشفقة ليست بعاطفة مفيدة فحسب، بل هي عاطفة منحطة أيضا. لنتصور أن ديانة الألم قد انتشرت بين الناس فما هي النتيجة؟ إن كمية الألم تزيد بدل من أن تنقص، ويصبح الإنسان مجبرا على حمل آلامه الخاصة وجزء من آلام الغير، حملا على حمل، وبهذا تضعف الشفقة من حيوية الحياة، وتجعل من الألم داء ساريا. ناهيك بأن ديانة الشفقة تضاد المذهب الطبيعي السائد حكمه في الأحياء، وهو بقاء الإصلاح والأنسب الذي يقضي بفناء الكائنات التي لا يصلح تركيبها للحياة، وقد أتاها حظ بخروجها ظافرة من معركة الحياة، وكل ديانة ترمي إلى الشفقة هي ديانة تعمل على وقاية العناصر المنحطة، وعملها هذا هو ما يسوق إليها الفوز في كل جيل، لأن الضعفاء والمرضى هم في الحقيقة الفريق الغالب، بينا أن الإنسان الخالص الصافي من كل شائبة هو نادرة من نوادر الوجود؛ وقد ثبت في كل الأنواع الحية العالية أن الأغلبية فيها هي كائنات منحطة التركيب، سيئة الخلق، مستسلمة للألم، والإنسان لا استثناء له من هذا الحكم. والإنسان - بالنظر إلى الحيوانات - هو سلالة عالية راقية، قابلة للتطور، وهو لما يبلغ آخر مرحلة من مراحل التطور في الكمال، وهو لما يزل عرضة للحوادث التي تؤثر فيه وتبدل منه. كما أن معدل الانحطاط في النوع الإنساني هو أبرز وأكثر منه في سائر الأنواع. وديانة الشفقة تغدو عاملا كبيرا في الإبقاء على فريق كبير من الأحياء لا فائدة منه، لأن انتخاب النوع لا يرى غاية له إلا الفناء. هي تحفظ مظاهر الفاقة والبؤس. فتجعل الوجود أكثر قبحا، والحياة أكثر ميلا إلى العدم. إن هذه الديانة هي جزء من العدمية. إنها مهددة للوجود وللنماذج العليا من إنسان الوجود. فان مرأى البؤس والألم والانحطاط والقبح يدعوا الرائي إلى رجاء العدم، إما

<<  <  ج:
ص:  >  >>