فوجد في إحدى خزائنها ما يسر له اختيار حماسته، وأن ياقوتاً الحموي أقام في مرو الشاهجان فأفاد من اثنتي عشرة خزانة بها، في كل واحدة آلاف المجلدات. وهو يقول في معجم البلدان:(فكنت أرتع بها، وأقبس من فوائدها. وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الأهل والولد. وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن). هذه مرو الشاهجان، فما ظنك ببغداد والقاهرة وقرطبة؟ كانت قرطبة لا تخلو دار كبيرة فيها من خزانة كتب
وكان في الآستانة إلى عهد قريب زهاء أربعين خزانة، في كل جامع كبير واحدة، وكثير منها يشرف على حدائق، وتتهدل الأشجار عند منافذها. فليس يمل القارئ الجلوس بها، ولا يزعجه عن القراءة لغو ولا جلبة. وقد يجلس المطلع في مكتبة الفاتح فيود أن لا تنتهي القراءة ولا ينتهي الوقت. وقارئ الكتب أحوج الناس إلى المكان النزه الهادئ، يوحي السكينة إلى نفسه، ويجمع للمعرفة فكره، ويحبب إليه المثابرة والدأب. فأين من هذا دور الكتب الكبيرة المطبقة على المطالع بجدرانها، وجلبتها، والتي تقطع عليه فكره بمناظر الداخلين والخارجين. يود قاصدها أن يحصل أقل ما يريد في أقصر وقت فيسارع إلى الخروج. وكم ينتظر حتى يظفر بالكتاب المطلوب؟
وقد كان في القاهرة خزائن فرقتها يد الزمان العسراء، ولعبت بها غيره الهوجاء، ثم جمعت بقية الأحداث منها في دار الكتب المصرية؛ وقد رأينا وزارة الأوقاف إلى عهد قريب تجمع الكتب من المساجد فتضعها في الخزائن الزكية. لقد أحسنت الحكومة بما فعلت حينما كانت الكتب عرضة للضياع، غير مهيأة للانتفاع، ولكن الأحوال تغيرت، ودار الكتب ضاقت بما فيها، وغصت بزائريها. فعلينا أن نتدارك اليوم ما عجزنا عنه بالأمس، فنعنى بتجهيز القاهرة بخزائن الكتب المختلفة في المحلات المختلفة. ونحتفظ بما في المساجد من الكتب إن كان لها بقية لنجعلها نواة لمكتبات كبيرة
ولم لا يكون لنا خزانة في الجامع العتيق، وكان مثابة العلم في مصر زمناً طويلاً؟ ولم لا يكون لنا خزائن في جامع ابن طولون، والجامع الأقمر، وخانقاة سعيد السعداء التي كانت مأوى كبار العلماء، ومساجد المؤيد، وبرقوق، والسلطان حسن، وكانت هذه المساجد معاهد للدرس، وقد اتخذنا بعضها اليوم مدارس أيضاً، فلماذا لا نتخذها معاهد لمطالعة الكتب؟