ويصححوا الخطأ، ويكملوا النقص، ولكنهم - في الأغلب - وقفوا فقط موقف الضابط يضبط الجريمة، والصائد يرقب الفريسة، لا موقف الهادي المرشد والناصح الأمين
فان أردت (بنداً) واحداً من (بنود) ما ينفق من الأموال في سبيل عدم الثقة فاجمع مرتبات المفتشين في جميع مصالح الحكومة
وليس الأمر مقصوراً على هؤلاء، فالمراجعون ومراجعو المراجعين؛ والأوراق تمر من يد إلى يد، ومن قلم إلى قلم، ومن مصلحة إلى مصلحة، ومن وزارة إلى وزارة. كل ذلك له أسباب، أهمها (فقدان الثقة)
وإن شئت حصر ما يستهلك من الأموال لفقدان الثقة فلا تكتف بمرتبات المفتشين، بل أضف إليها مرتبات كل هؤلاء الذين ذكرنا، فلو قلنا إن نصف مرتبات الموظفين ينفق في سبيل فقدان الثقة لم نبعد
وليست المصيبة كلها في الأموال، فلو كنا نقدر للزمن قيمة كغيرنا من ألمم لاستفظعنا ما يستوجبه فقدان الثقة من أيام وشهور وسنين تضيع في إجراءات وتدقيقات ومراجعات ومناقضات وتعليقات مبناها كلها (فقدان الثقة)
ثم هناك عقول للنابغين وكبار أولي الأمر في الأمة تفكر ثم تفكر، وتقدر ثم تقدر، وتضع الخطط تلو الخطط، والقوانين واللوائح والمنشورات تلو القوانين واللوائح والمنشورات، ويخيل إليها أنها بما فعلت تأمن الخيانة والسرقة والتزوير، وتظن بذلك أنها تعالج ما فسد وتصلح ما اختل، وهي إنما تزيد بذلك في (فقدان الثقة)
أضف إلى هذا ما تسبغه هذه المظاهر كلها على نفسية الموظف، فهو يرى كل هذه النظم واللوائح والقوانين والمراجعات والمناقضات فيشعر أنها إنما شرعت له ومن أجله وبسبب فقدان الثقة به، وأنها كلها تنظر إليه كلص وكمجرم وكمزور؛ فيفقد الثقة بنفسه، ويعمل في حدود ما رسم له، ويشعر بالسلطات المختلفة عليه؛ فلا يجرؤ على التفكير بعقله، ولا يجرؤ على تحمل تبعة، ويفر من البت في الأمور ما وسعه الفرار، حتى يكون بمأمن دائم من الأسئلة والمناقضات - وهذا هو سر ما نراه من بطء في العمل، وركود في الحركة، وضياع لمصالح الناس، إذ لا شيء يبعث الثقة في المرءوس مثل أن يثق به الرئيس، ولا شيء يبعث الحيرة والارتباك والاضطراب إلا ما يشعر به من (فقدان الثقة)