ويمضي أبو الفرج فيروي لنا حديثا طويلا بهذا السند في أمر زواج ليلى العامرية برجل من ثقيف وشعر مجنون بني عامر حين بلغه ذلك، وسند آخر أتى به أبو الفرج. قال أخبرني محمد بن خلف، قال حدثنا أبو العيناء عن القحذمي عن أبي صالح السعدي، ثم يمضي في رواية خبر طويل يتعلق بعمر بن أبي ربيعة، وكذلك ينقل عنه الأبشيهي صاحب كتاب المستطرف، وغير هذين المؤلفين كثير، وعد المؤلفين لأبي العيناء من الرجال الذين يعتمد عليهم في رواية الأخبار والأشعار ما هيأه لذلك إلا نشأته بين أولئك الفطاحل من البصريين الذين تغذى بلب علومهم، واستصفى ثمار عقولهم
كان أبو العيناء إذا يتردد على علماء البصرة يأخذ عنهم. فهل كان في هذا الوقت أعمى أم بصيراً؟ يقول الرواة إنه ما عمى إلا بعد أربعين عاما من عمره، وهو زمن ليس بالقليل يكون أبو العيناء قد أخذ فيه بحظ وافر من متعته ببصره، والغريب في هذا حقا أن الرواة يسيطرون لنا أسطورة عن سبب عماه؛ وهي أن جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب (ض) فأساء مخاطبته. فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكل من عمى منهم فهو صحيح النسب، فهذا الخبر إن صح ينبثق منه شعاع من الحقيقة يتحكم فيه قانون الوراثة، فقد ورث عن آبائه سلاطة اللسان
قال أبو العيناء حاكيا عن نفسه: أنا أول من أظهر العقوق لوالديه بالبصرة، قال لي أبي إن الله قد قرن طاعته بطاعتي، فقال تعالى:(أن أشكر لي ولوالديك) فقلت يا أبت إن الله تعالى قد أمنني عليك ولم يأمنك علي. فقال:(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم)، ولم يقف بسلاطته تلك على أهله وذويه، فان الناس كلهم كانوا يخافون معرة لسانه، والسهام التي يقذفها في كلامه، وتستطيع أن تجد له أخبارا كثيرة في كتب الأدب تؤيد ما ذهبنا إليه، فهذا موقفه مع فتى ماجن أراد العبث به مرة. فقال له يا أبا العيناء متى أسلمت؟ قال حين أسلم أهلك وأبوك الذين لم يؤدبوك. . . الخ ذلك الخبر، وموقف آخر مع عيسى بن فرخان شاه الذي يتولى الوزارة ويتيه فيها على أبي العيناء، فلما عزل لقيه أبو العيناء في الطريق فسلم عليه وأحفى فقال له: والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمد لله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة، فلقد أصابت فيك النقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، فلقد أظهرت محاسنها