للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بالانصراف عنك، ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزهنا عن قول الزور فيك، فقد والله أسأت حمل النعم، وما شكرت حق المنعم

وموقف ثالث يقفه أبو العيناء مع بعض الوزراء في مجلسه إذ يمدح البرامكة ويذكر سخاءهم وجودهم فيقول الوزير إنما هذا من تصنيف الوراقين، وكذب المؤلفين، فقال أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فأسكته وعجب الحاضرون من إقدامه عليه

فهذه الأخبار وغيرها كثير تعطينا فكرة صحيحة عن سلاطة لسانه التي امتاز بها بين الأدباء المعاصرين له، حتى كان الوزراء وأرباب المناصب وغيرهم يخافونه ويتقون لسانه بل يدارونه، وتلك اللسانة كما قلت كانت موروثة عن آبائه، فقد علمنا كيف أقدم جده الأكبر على علي بن أبي طالب (ض)، وأساء مخاطبته حتى دعا عليه، وحتى أستجيبت دعوته فيه وفي أحفاده من بعده. ولكن أبا العيناء يعتذر عن بذاءة لسانه حين سأله المتوكل على الله بقوله بلغني عنك شر. فقال يا أمير المؤمنين إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله وذم، فقال في التزكية: (نعم العبد إنه أواب)، وقال في الذم: (هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم) وقال الشاعر:

إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم اذمم الجبْس اللئيم المذمما

ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشقّ لي الله المسامعَ والفما

وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع السني والدنيء بطبع لا يتميز فقد صان الله عبدك عن ذلك

وفي الحق إن أبا العيناء لم يكن يسفه على أحد من الناس إلا على من يتعرض له بإساءة، فإذا تجرأ على هذا شخص فويل له من لسانه، ولقد أجاب المتوكل إذ قال له كم تمدح الناس وتذمهم فقال ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء، وغرضه بهذا أنه يعطي كل إنسان ما يستحقه من مدح أو ذم، ولقد مدح أناسا كثيرين ولكنه ذم أكثر ممن مدح، وإنا وإن كنا نعتقد أن أبا العيناء قد أسرف في الذم إسرافا كثيرا، فان من الحق علينا أن نعترف أن هناك عوامل أخرى جعلته يسرف هذا الإسراف، وسنعرف بعد ما هي هذه العوامل

(يتبع)

<<  <  ج:
ص:  >  >>