تابعنا فريزر في المقالات السابقة، وسرنا وراءه خطوة خطوة رجاء أن نعرض صورة كاملة من آرائه وأبحاثه. وعلّ القارئ قد تبين في هذه الصورة غزارة مادة العالم الإنجليزي وسعة إطلاعه وتمكنه من موضوعه. فهو لا يكتفي بأن يدرس ظاهرة من الظاهر الاجتماعية لدى قبيلة أو شعب أو طائفة، وإنما يستقري الشعوب ويتتبع الجمعيات على اختلافها: فمن زنوج إفريقية إلى هنود أمريكا، ومن متوحشي استراليا إلى سكان الهند والصين، ومن القبائل الهمجية إلى الأمم المتحضرة، ومن العصور القديمة إلى التاريخ المتوسط والحديث. تشهد أمثلته، فوق غزارتها، وحسن اختيارها، بدقة الملاحظة والتعمق في البحث. هذا إلى خيال رائع، وأسلوب جذاب، وأحكام متواضعة لا زهو فيها ولا ادعاء، ولا مبالغة، ولا تهويل، قد أملتها دراسة هادئة، واستنبطتها عقلية متزنة. ويكفي للبرهنة على ذلك أن نسرد الفقرة التالية التي ختم بها فريزر بحثه إذ يقول:(هاكم، سيداتي وسادتي، دفاعي عن الخرافة الذي قد يعرض تخفيفاً عن هذا المتهم الساقط حين يقف بين يدي القضاة، ومع هذا سيحكم عليه بالإعدام لا محالة؛ غير أن هذا الحكم لن ينفذ في جيلنا الحاضر، وسيبقى موقوف التنفيذ إلى أجل بعيد. وما أنا إلا محام - لا خصم - يتقدم إليكم الليلة. وقد كانت محكمة أثينا العليا لا تقضي في الجنايات إلا ليلاً، لهذا تخيرت الليل للدفاع عن سلطان الظلام. والآن، ونحن في ساعة متأخرة، يجدر بي أن أختفي مع موكلي الأشأم قبل أن يصيح الديك، ويبدو ضوء الفجر الرمادي في الأفق)
وفي دراسة فريزر للخرافة ناحية أخرى جديرة بالتقدير، ذلك أنه أخذ على عاتقه نصرة قضية يتبادر إلى الذهن بطلانها. يكاد يجمع الناس على أن الخرافة مبعث شر ومثار فتنة؛ ويأبى فريزر إلا أن يخرج على هذا الإجماع معلناً أن في باطن هذا الشر خيراً عظيماً وأن الخرافة أساس النظم الاجتماعية الهامة. وقد نجح نجاحاً كبيراً في إثبات دعواه والبرهنة على ما كان يرمي إليه. بيد أنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن ما يسميه فريزر خرافة هو في رأى معتنقيه دين وعقيدة. فالهمجي يخضع للملوك والحكام خضوع الموقن بسلطانهم الخارق للعادة وهيبتهم الصادرة عن السماء، ويؤمن بأن مال سيده ورئيسه مقدس فلا يمسه بسوء، ويعتقد أن الزنا مجلبة للصواعق والجدب والقحط فلا يقربه، ويخشى الأرواح والأشباح خشية الواثق من وجودها فلا يقتل نفساً ولا يسفك دماً. ولو خالجه الشك يوماً في هذه