للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والجواب السريع والطبع الفكه والحجة الداحضة، والبديهة المتوقدة. فكانت تلك المظاهر معينة له على الحياة التي أقدم عليها ببغداد. فمن ذلك أن بعض الرؤساء قال له: يا أبا العيناء، لو مت لرقص الناس طرباً وسروراً! فقال بديهةً:

أردتَ مذمتي فأجدت مدحي ... بحمد الله ذلك لا بحمدك

فلاثك واثقاً أبداً بعمد ... فقد يأتي القضاء بغير عمدك

ثم قال: أجل. الناس قد ذهبوا فلو رآني الموتى لطربوا لدخول مثلي عليهم، وحلول عقلي لديهم، ووصول فضلي إليهم، فما زال الموتى يغبطونكم ويرحمونني بكم. وخاصم أبو العيناء يوماً علوياً فقال له العلوي: تخاصمني وأنت تقول كل يوم: اللهم صل على محمد وآل محمد! قال لكني أقول الطيبين الطاهرين ولست منهم. ووقف عليه يوماً رجل من العامة فلما أحس به قال من هذا؟ قال رجل من بني آدم، فقال مرحباً بك! أطال الله بقائك، ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع. ولقيه بعض أصحابه في السحر فجعل يتعجب من بكوره، فقال له: أراك تشركني في الفعل وتفردني في التعجب! وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك. فقال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قال إن جماعة من الكتاب يلومونك. فقال: -

إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً علي لئامها

وغير هذه الأحاديث كثير تستطيع أن تقرأها في كتب الأدب. وتلك البديهة الوقادة والأجوبة المسكتة هي التي جعلت الحصري صاحب زهر الآداب يقول: كان أبو العيناء أحدَّ الناس خاطراً وأحضرهم نادرة، وأسرعهم جواباً، وأبلغهم خطاباً. ولقد كان أبو العيناء يجالس في حياته البغدادية الخلفاء والكبراء فيطرفهم بأحاديثه وفكاهته، فكان سلوة لهم في مجالسهم وزينة في محاضرهم على ما فيه من حدة اللسان

انتقل أبو العيناء إذاً من البصرة إلى بغداد بعد أن تمت له الثقافة التي أرادها، والبلاغة العكاظية التي امتاز بها، وتلك حال كان يشترك معه فيها كثير من أدباء عصره، إذ كانت بغداد مركز الخلافة الإسلامية يرحل إليها الأدباء والعلماء، ويبتغون فيها صلات الملوك والأمراء، وقد يصل بعضهم إلى أن يرتب له الخلفة من بيت المال رزقاً يجري عليه. ويظهر أن أبا العيناء كان من أولئك النفر كما تدل عليه أحاديثه ولا سيما إذا لاحظنا أنه من

<<  <  ج:
ص:  >  >>