بذلك الجسر (الكوبري) وقوانينه الميكانيكية، نحن أجزاء من ذلك التيار الذي يجرف أمامه كل شيء تيار القانون العام والسببية، ولما كان ذلك القانون هو الله فنحن إذن أجزاء من الله تعالى ولو أن الأفراد تفنى بالموت الا أن تلك الحقيقة الخالدة التي تتمثل فينا باقية لا تموت. أجسامنا خلايا في جسم الجنس والأجناس أعضاء من جسم الحياة، وبهذا الدمج - دمج الفرد في الكل. يقول شاعر هندي (اعلم أن روحا واحدا ينظم نفسك في الكل وانبذ الوهم الذي يفصل الأجزاء عن كلها الشامل.)
وباعتبار الإنسان جزء من كل فهو خالد، ذلك لأن القانون الذي يسيره لا يفنى بفنائه كما قدمنا، بل هو أبدي تظهر آثاره في الأفراد بعد الأفراد. فأنت إذا محوت مثلثا مخطوطا على ورقة أمامك فليس معنى ذلك فناء القوانين التي تخضع لها المثلثات لان هذا المثلث المعين الذي محوته لم يكن شخصية منفصلة عن زملائه المثلثات بل هو يضبط الجميع ناموس واحد لا يعتريه التغير والفناء. وقل مثل هذا تماما في أفراد الإنسان. يموت الواحد ويبقى قانونه ممثلا في سائر الأفراد وهذا هو معنى الخلود عند سبينوزا، وهو كما ترى ليس خلود لأفراد بل خلود لقوة وقانون، وذلك يتضمن بالطبع إنكار الثواب في الحياة الآخرة جزاء الفضيلة الدنيوية، وهو يقول في ذلك:(إن هؤلاء الذين ينظرون للفضيلة كأنها عبودية مفروضة عليهم من الله تعالى ولا بد أن يمنحهم الله جزاء على قيامهم بهذا الفرض الثقيل إنما هم أبعد ما يكونون عن فهم الفضيلة على الوجه الصحيح. فالفضيلة أو طاعة الله هي سعادة في نفسها يشعر الإنسان بالطمأنينة والنعيم في أدائها فعلام تنتظر الجزاء؟ انك تكون كرجل أسكنه سيده قصرا فخما وأعد له فيه كل ألوان النعيم فيظل يرتع فيه وينعم ثم هو بعد ذلك ينظر من سيده أجر البقاء في ذلك النعيم!!)
والخلاصة أن الطبيعة تسير بمقتضى قوانين كامنة في صورها كما تكمن قوانين الصوت مثلا في جهاز الراديو، فكما أنك لا تستطيع أن تقول هذا هو الجهاز المادي للراديو وتلك هي قوانينه النظرية منفصلة بل هما شيء واحد لا ينفصل كذلك لا يمكنك أن تقول هذا هو العلم المادي وتلك هي القوة الروحية التي تسيره، لأنهما متصلان في وحدة لا تتجزأ. وبما أن هذه القوانين تسيطر على كل جزء من أجزاء الوجود (والإنسان واحد منها) فالإنسان يسير بمقتضى تلك القوانين الثابتة. ولا يتمتع بذرة من الحرية في تصرفاته.