للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اختلاف إذن بين الإرادة والذكاء، ما دامت الإرادة هي عبارة عن نزوع الجسم إلى عمل معين، والذكاء هو القوة الفكرية الخالصة، وها نحن أولاء قد رأينا أن أعمال الجسم وقوة الفكر ليسا إلا ناحيتين من حقيقة واحدة.

الإنسان إذن بعقله وجسمه وحدة لا تقبل التقسيم وعماد وجوده هو الرغبة اللاشعورية في البقاء، فالرغبة اللاشعورية عند سبينوزا هي كنه الإنسان وجوهره (قارن إرادة الحياة عند شوبنهور وإرادة القوة عند نيتشه) وكل الغرائز خطط دبرتها الطبيعة لحفظ الفرد أو النوع، والسرور والألم ينشآن عن إشباع الغرائز أو تعطيلها، فليس السرور والألم سببا لرغباتنا كما يذهب فريق من المفكرين ولكنهما نتيجة لها. نحن لا نرغب في الشيء لأنه يسرنا ولكنه يسرنا لأننا نرغب فيه، ولا بد لنا أن نرغب فيه لأنه يشبع لنا الغرائز التي تمهد لنا سبيل البقاء. ولا بد أن يكون القارئ قد سارعت إليه النتيجة الطبيعية لهذه المقدمات وهي أن ليس ثمت إرادة حرة، وأن الإنسان مجبر على السير في طريق معينة مرسومة ليس له أن يحيد عنها قيد شعرة، لأن ضرورات الحياة تحدد الغرائز والغرائز تملي الرغبات والرغبات تخلق الأفكار والأعمال المعينة.

وقد يتوهم الإنسان انه حر فيما يفكر ويعمل ومنشأ ذلك الظن الخاطئ انه مدرك لرغباته ولكنه يجهل الأسباب التي تسوق إليه الرغبات فيخيل إليه انه إنما تولدت بمحض إرادته، والحقيقة أن هناك من الدوافع الغريزية ما تحتم عليه أن يحقق هذه الرغبة أو تلك رغم أنفه، فهو يدرك النتائج فقط ويجهل الأسباب الدافعة إليها، ويشبه سبينوزا الإنسان في ذلك بقطعة من الحجر الملقى الذي لا بد له من أن يسقط في مكان معين تبعا لقوة الدفعة، فلو فرضنا أن ذلك الحجر الملقى له إدراك كالإنسان لظن انه إنما يسقط في هذا المكان الخاص وفي هذه الساعة المعينة لأنه يريد ذلك وهذا لأنه يجهل اليد التي دفعته فقسرته على تصرف لا يستطيع أن ينحرف عنه.

وهكذا تخضع أعمال الإنسان لقوانين ثابتة ثبوت القوانين الهندسية ومعنى هذا ان الإنسان جزء لا يتميز من سائر أجزاء الطبيعة بل يندمج فيها ويخضع لناموسها.

الإنسان ظاهرة مادية ككل الظواهر الأخرى يتحكم فيها ذلك القانون الشامل الذي يكمن وراء الكون جميعا ولا ينفصل عنه بل يكون معه كلا لا تنفصم عراه. وقد ضربنا مثلا

<<  <  ج:
ص:  >  >>