بالرد على السؤال الثاني. فنرى من البديهي أن الترجمة عن ترجمة، شيء لا يكفي ولا يغني، وإذا جاز لنا أن نضرب مثلا فلنتصور كاتباً فرنسياً يريد أن يطلع قومه على جمال الأدب العربي ولكنه بدلاً من المبادرة إلى تعلم العربية يلجأ إلى ترجمة إنجليزية أو ألمانية للكتاب الذي يريد أن ينقله، ثم يكتفي بنقله على هذه الصورة إلى اللغة الفرنسية. فكيف يستطيع مثل هذا الكاتب إذا أراد ترجمة المعلقات مثلا بهذه الطريقة، أن يحتفظ بما فيها من خيال شعري، ونظم البديع؟ أو إذا أراد نقل رسالة من تلك الرسائل الدقيقة المعنى التي ألّفها ابن العربي أو مقالة من مقالات الجاحظ البليغة، فهل يمكن أن تكون ترجمة الترجمة التي يقدمها للقراء، إلاّ بمثابة شبح لشبح؟ ولو أني قابلت رجلا من هذا القبيل لأبديت له إعجابي بحماسه وغيرته، ثم طلبت إليه بكل ما لدي من أدب وحزم أن يبدأ بدراسة العربية خمس سنين ثم ينظر بعد ذلك هل في وسعه أن ينهض بذلك العبء.
فإذا كان لابد من نقل الآثار اليونانية واللاتينية إلى العربية، فليس من شك في أن هذا العمل الخطير يجب أن ينهض به علماء من الناطقين بالضاد، لهم إلمام تام بهاتين اللغتين. وليس من وسيلة أخرى لإتمام ذلك العمل على الوجه الأكمل، بل أني أذهب إلى أبعد من هذا فأقره بأن العمل لا يستحق أن يعمل بأي شكل آخر.
ولكن هل من اللازم القيام بذلك العمل؟ قد يتساءلون: أليست آدابنا وحدها كافية لتثقيف المصري في عصرنا هذا؟ أليس الأولى بمن لغتهم العربية، أن يقصروا دراستهم على الأدب العربي اللهم إلاّ فريق المتخصصين؟ ثم على فرض أنه من المستحب لأسباب كثيرة أن ندرس لغات وأدبيات أجنبية، ألا يكون الأفضل دراسة اللغات الأوربية والآسيوية الحديثة؟ وما دامت اللغتان اليونانية واللاتينية قد ماتتا منذ قرون عديدة، أليس الأولى بنا نحن أن نتركهما في رمسهما؟ وإلاّ فما الفائدة التي تجنيها اللغة العربية والآداب المصرية من دراسة تلك الآثار اليونانية واللاتينية بما لا يمكن الحصول عليه بشكل أكمل وأحسن بدراسة الآداب الحديثة؟
لقد جاء في كتاب (الفلسفة في الإسلام) تأليف دي بوير العبارة الآتية: (إن أجلّ شيء خلقه لنا العقل اليوناني في الفنون وفي الشعر وفي التاريخ، لم تصل إليه أيدي الشرقيين. وكان من الشاق عليهم أن يفهموه لجهلهم حياة الإغريق. فنرى مثلا مؤرخي العرب قادرين على