وأنطلق البطل إلى قصر أخيه. . . إلى قصر باريس فوجده يلهو ويلعب، ولا يأبه بهذه الأرواح الغالية التي تصطرع في الميدان، فأخذته الحنقة، وصب عليه شواظ غضبه. . . (أنت! أنت باريس بن بريام! عجباً وزيوس الأكبر! أنت هنا تلهو وتلعب، وتدع ضحاياك تنافح عن آثامك تحت أسوار اليوم، وتذوق الردى بجريرتك؟!. . .).
وأطلق العنان للخيل، فذهبت عربته الحربية المطهمة تطوي الطريق إلى الميدان. . .
أما أمه فقد جمعت نساء طروادة وجماعة المتوسلات، وذهبن جميعاً إلى هيكل مينرفا. . . وصلين وبكين، وغسلن بدموعهن قدمي التمثال المعبود، ونذرن لآلهة الحكمة ما أمر به هكتور أن يُنذر. . .
ولكن!
لقد أصمت مينرفا أذنيها! ولم تُصخْ لهذه المتوسلات المكلومة، ولم ترق لتلك العبارات المسفوحة، ولم تطمع أبداً في ضحايا وقرابين تكفر عن خطيئات باريس؛ ذاك الراعي المفتون الذي آثر الجمال الفاني على الحكمة الخالدة، فقضى في التفاحة لفينوس، ربة الحسن والحب، تلك الحية الرقطاء التي لدغت طروادة بأسرها، فهي إلى اليوم تصرخ من سمها الزعاف يسري في أرواح أبنائها، فينكل بهم، ويكاد يقضي عليهم. . . ولا ذنب لهم ولا جريرة، إلا لبنات الهوى الآنم، والغرام الشائن، والحب المجرم المهين!!
وأحس هكتور وهو منطلق إلى الميدان كأن منيته تنوشه من مكان بعيد، وأحس في صميمه بشوق حار إلى لقاء أندروماك، زوجه العزيزة عليه، الأثيرة إلى قلبه، شوقاً يشبه وداع الحياة في حرارته وأسره، وشوقاً يشبه الاستمتاعية الأخيرة من مباهج هذه الدنيا. . . في حزنه الصامت، ومعناه العميق!
وأحس كذلك بلوعة إلى التزود بنظرات من سكمندريوس طفله الحبيب؛ هذه الهبة السماوية التي توشك أن تصبح نقمة من نقمات اليتم، إذا كان صحيحاً هذا الهاجس الذي وقر في قلب هكتور، والذي صور له أنه مقتول اليوم لا محالة. . .
وألح الشوق على قلب البطل، فثنى عنان الخيل إلى الطريق المؤدية إلى قصره الممرد، ليشفي حاجات الفؤاد المعذب.