حسبه قطعة من الجماد لا خير فيها، فترك الكلبُ الكتاب وانصرف؛ وإذا فرضنا أن التفاهم مع الكلب ممكن، ثم جئت تقسم له أن في الكتاب ما ليس يدرك بالشم واللمس، وأن فيه معنى إذا كان لا يدركه هو فليس عجزه دليلاً على عدم وجوده، نفر وسخر وأكد لك أن حواسه مقياس للحقيقة لا يخطئ. . . وإني لأحسب الكون يا صديقي كتاباً مفتوحاً فيه من المعاني السامية ما يمكن فهمه وإدراكه لذوي البصيرة السليمة. ولكني أؤكد لك أن هنالك طائفة من الناس ستمد أيديها وأنوفها إلى جوانب الطبيعة تتحسسها، ثم تجزم في يقين لا يعرف الشك ولا التردد بأن هذه الطبيعة جماد في جماد يسيره هذا وهذا من القوانين في طريق مرسومة معلومة لن تشذ فيها خارقة ولا معجزة. . . وأعجب العجب أن تكون هذه الطريقة الكلبية علماً، وأن يكون كل ما عداها تخريفاً وجهلاً.
نشدتك الله إلا حدثتني كيف جاز لك أن تقطع أن ليس في الكون من الحقائق ما تعجز عقولنا وحواسنا عن إدراكه؟ ولم لا يكون في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منا عقلاً وأحد ذكاء فيستطيعفي كتاب الكون ما لا نستطيعه؟ ترى لو أتانا الله حاسة سادسة وسابعة وثامنة، فماذا عسانا نعرف بتلك الحواس الزائدة، أم تظل أبواباً مغلقة لأن العلم قد نفد؟!
تعال معي إلى الكون نحتكم إلى ظواهره لنرى هل استطاع العلم أن يعللها جميعاً، أم أن هناك ألوفاً وألوفاً يقف أمامها العلم مكتوف الأيدي ولا يمكن فهمها إلا أن تكون (خوارق) فوق العلم وقوانينه. أم تُراك فاعلاً كما يفعل ذوو النزعة المادية الضيقة، فتطأ بقدمك كل الظواهر التي تستعصي على العلم وتنكر وجودها حتى لا ينثلم العلم ولا ينخدش، أو تطلب إلينا أن نصبر وأن ننتظر حتى تتم للعلم قوته وفتوته فيشمل الكون كله بالتفسير والتعليل؟ وفي الحق أن هذا السلاح الذي يشهره الماديون_سلاح التسويف والوعد بأن العلم سيتمكن في المستقبل مما لم يتمكن منه اليوم_يمكن استخدامه في كل حين، فليس بيننا وبينهم موعد يبطل بعد التسويف، ولكنها مماطلة متجددة لا تنقطع ولا تفرغ؛ فإذا فرضنا أن رجلاً استطاع أن يحز رأسه ويحمله فوق يديه سائراً به في الطريق، ثم سألت الماديين رأيهم في هذا أجابوك: اصبر فإن الزمن كفيل للعلم أن يبرهن على هذه الظواهر وأشباهها، فليس ذلك على العلم بعزيز. . . ولكن هل يتفق وروح العلم أن نلجأ إلى دليل غير موجود؟ أم أنه أحجى وأقرب إلى الصواب أن نعلل الظواهر بالأدلة التي بين أيدينا، حتى ولو تعارض