غير أن ذلك الروح الحربي المضطرم لم يتمخض عن إحياء الدولة الرومانية، ولا استعادة شيء من حدودها أو أملاكها القديمة، ولكنه تمخض عن مشروع استعماري مثير وضيع معاً: ذلك هو غزو الحبشة وافتتاحها لاستخلاص ثرواتها الدفينة، وليكون منها ومن الصومال والأرترية لإيطاليا القيصرية إمبراطورية استعمارية ضخمة؛ وقد كان زعيم الفاشستية يحلم بأن جيوشه ستكتسح الفريسة في سيل من النصر الباهر يدهش العالم ويروعه معاً. ولكن الفريسة صمدت للمعتدين عليها وأفهمتهم أن دون إزهاقها أهوالاً وتضحيات فادحة؛ وقد كانت الفاشستية في ذلك معتدية أثيمة تنكر أبسط مبادئ الحق والعدالة، بل تنكر ماضيها وعهودها وتصريحاتها التي أذاعتها لأول عهدها بلسان زعيمها. وإليك مبادئ السياسة الخارجية الفاشستية كما أذاعها موسوليني في أول برلمان فاشستي:(لا نريد استعماراً، ولا نريد اعتداء، ولكنا سنتخذ موقفاً يقضي على سياسة الإذلال التي جعلت إيطاليا أقرب إلى وصيفة وخادمة ذليلة للأمم الأخرى؛ إحترام للمعاهدات الدولية مهما كلفنا ذلك؛ إخلاص وصداقة نحو الأمم التي تقدم لإيطاليا أدلة صادقة على مبادلة هذه العواطف؛ تأييد للتوازن الشرقي الذي يقوم عليه سلام الدول البلقانية، ومن ثم يقوم عليه سلام أوربا وسلام العالم)، ولكن الفاشستية وهي حركة عنيفة تقوم على القوة وتعتبر الحق للقوة، لا يمكن أن ترتبط بعهد أو ذمام، ولا يمكن أن تؤمن بالحق لذاته أو العدالة لذاتها؛ وقد نمت الفاشستية واشتد ساعدها بسرعة، واستطاعت أن تخلق من إيطاليا قوة يخشى بأسها. بيد أنها بدلاً من أن تقف هذه القوة لتأييد الهيبة والمصالح القومية المشروعة، اتخذت منها أداة لتهديد سلام أوربا وسلام العالم، وجعلتها وقفاً على تحقيق الشهوات الحربية والاستعمارية، ولم تحجم عن أن تعرض سلام العالم للخطر فغي سبيل شهواتها وغاياتها.
واليوم وقد انساقت الفاشستية إلى مغامرتها الخطرة، فإنها تشعر لأول مرة في تاريخها بصدمة حقيقية؛ وقد كان موسوليني يظن أنه يستطيع افتراس الحبشة بأيسر أمر وعلى مرأى ومسمع من العالم، وأن صيحات الوعيد المتكرر تكفي لإخماد كل معارضة وتدخل: ولم يكن موسوليني ليقيم وزنا لعصبة الأمم، وقد سحق مبادئها من قبل يوم احتل جزيرة كورفو ليرغم اليونان علة تنفيذ مطالبه لخلاف نشأ بينهما من جراء مقتل بعض الرعايا