للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فإذا شرذمة من الأعراب على الخيل والجمال يسعون نحو الشمال. وكان انصراف العرب عن الحجاز قد كثر هذه الأيام، وإذا بهم يعلنون مقتل عثمان في شيء من الإنكار والخوف والهلع. فإذا استوقفهم وسألهم فوصفوا له الأمر وصفاً دقيقاً، ثم تولوا وتولى، فإذا سلامة قد ترك المصحف الذي كان يقرأ فيه ووقع الخبر في نفسه موقع الصاعقة. وريعت نفسه ولم يطلق على الأمر صبراً. فنهض من مجلسه ونظر إلى عمرو فإذا به شجى يشرق بالدمع فقال له وإنه ليعاني ألماً بليغاً: (يا معشر قريش! إنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟) فقال عمرو وإنه لذاهل: (أردنا أن نخرج الحق من خاصرة الباطل ليكون الناس في الحق شرعاً سواء.).

وهل أصبح الناس الآن في الحق شرعاً سواء. .؟ أجل! وقد ذهب ولي الأمر وأصبح السيف بين الناس حكماً. . وليطلب الأمر من يجد في نفسه الإقتدار على النهوض به. . ترى من يكون هذا المقتدر الذي سيملك ناصية الأمر ويقدر له الفوز بهذا الغنم العظيم؟ كذلك كان ابن العاص يسائل نفسه. . وكذلك كان يمضي في نظر المسألة والتدقيق فيها. . . بدأ يستعرض جوانب القوة واحداً فواحداً ويوازن بين ما لديهم من (القدرة) لا من (الحق) موازنة طويلة حتى لا يخفى عليه منها وجه من وجوه الرأي. . وهذا رجل يتقن الحساب ويجيد المساومة. . . ولا يخطئ في تقدير ربحه من أي النواحي. . ولقد كان هذا موقفه في كل أزمة. . وتلك حالة قبيل كل عاصفة. . يقف ساكنا ويفكر طويلاً. . ثم يساوم في حرص. . وأخذ يستعرض ما انقضى من أيامه عسى يلقي الماضي على الحاضر ضوءاً. . . إنه ليذكر موقفه قبيل إسلامه. . . وقد بدأ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر شيئاً فشيئاً. . . وبدأ الخوف من ناحيته يدب في قلوب قريش. . . وإن طائفة منهم لتشتد في عداوته شدة جاهلية. . . وإن طائفة أخرى لتسرع إلى رايته فتنضوي تحتها. . . وإن طائفة ليثقل عليها الأمر فتدع الميدان وتعتزل الحياة. . . ولكن عمراً لا يميل إلى أحد الجانبين ولا يعتزل بل يزن كل ناحية على مهل. . . ويقدر تقديراً طويلاً بل هو يبتعد عن الميدان كله إلى بلاد الحبشة. . . وهناك يرقب الأمور في صبر وحرص كما يرقب التاجر أسعار السوق. . . فإذا استبان له رجحان كفة الإسلام. . . وإذ رأى كنوز النصر تخفق. . . في بدر وفي الخندق، فقد أقبل إقبال الواثق ليتمم الصفقة وليشتري عن ثقة. . . ولكنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>