قفا ودِّعا نجدا ومن حل بالحمى ... وقلَّ لنجد عندنا أن يودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى ... وما أحسن المصطاف والمتربَّعا
وليست عشيّات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تَصدَّعا
فهل ترى أحد هؤلاء الشعراء الثلاثة قد زاد في هذا الحنين على ما يتحدث به إليك متحدث نأى عن بلده، وفارق أهله وعشيرته، من الحنين إليهم، والألم لفراقهم، وتذكر ما مضى له من عهود، وزمن لا يعود، وتَمنيه العودةَ إلى وطنه تمني اليائس من الأمنية، وتأميله الرجوع إلى بلده تأميل من يثق بالخيبة ويوقن بامتناع الأمل واجتهاده في الدعاء له وتوديعه إياه، وتفديته بالنفس؛ فلم يخترع أحدهم في الحنين معنىً جديداً، ولم يفكر تفكيراً بعيداً، ولم يُغرِب في خيال، ولم يبالغ في تصوير ما يشعر به من ألم الفرقة، ووحشية الغربة، ولم يُثقِل شعره بالمجازات والاستعارات، ولا بشيء من تلك الحُلي الظاهرية الزائدة على الحاجة في هذه المعاني وأشباهها.
ولما كان هذا الشعر خطاباً صادراً عن نفس الشاعر منبعثاً عن عاطفته كان لا بد من مشافهته لنفس السامع ومباشرته لها، ولا نزاع في أن إثقاله بتلك الحلي الظاهرية من الاستعارات والمجازات مما يحول بين معانيه ومشافهتها للنفس، ويباعد بينها وبين الحس، ويجعلها أشبه بالغناء الجميل تسمعه بواسطة (الحاكي) فإنه لا ينال من نفسك ما يناله الغناء المشافه.
وفي هذه الأمثلة التي رويتها لك فوق البساطة الساحرة في معانيها من رقة الأسلوب الملائم لمعاني الحنين، وعذوبة العبارة، وحلاوة الألفاظ - وهي كلُّ عمل الشاعر في أمثال هذه المعاني - ما يثير الشجن ويوقظ اللوعة، ويجتذب قلب السامع إلى قلب الشاعر حتى يصيرا قلباً واحداً متحد الإحساس، متفق الشعور، حتى يخيل للسامع - وهو في وطنه بين أهله وعشيرته - أنه غريب عنهما، وأن النوى قد قذفت به إلى مكان سحيق، فهو يشكو الغربة كما شكاها الشاعر، ويتمنى العودة كما تمناها؛ وقد كان بعض علماء الأدب المتقدمين ينشد أبيات الصّمّة بن عبد الله السابقة على تلامذته في مسجد الكوفة، ثم يبكي حتى تخضل