لحيته، ويقول: ما أصاب أكبادكم! ألا تبكون عشيات الحمى؟
وسرّ الجمال في هذه المعاني مشافهتها للعاطفة ودخولها إلى النفس الإنسانية من ناحية الضعف الموجب للمواساة والرحمة؛ ونفوذها إلى إحساس العطف المشترك بين الأسرة البشرية الباعث على المشاركة في الألم والمحنة. أما بساطة هذه المعاني في أشعارهم إذا بكَوا الشباب وعهده، وذموا المشيب ووفدَه؛ ووقفوا على الأطلال والديار، فلا أريد أن أطيل عليك في هذا الفصل القصير بذكر أمثلتها، فإن ذلك مستفيض شائع في كلامهم بل هو جُلُّ شعرهم، وأكثرُ ما يبدأون به قصائدهم؛ فلا تكاد تجفّ قصيدة لأحدهم مهما يكن غرضها من دمعة حارّة يذريها الأسف على شباب ذاهب والارتياع من مشيبٍ طارق، والوقوف على طلل ما حل، ورسمٍ حائل، وذِكر ما قضاه الشاعر في أفياء هذه الرحاب وأكناف هذا الجناب، من أيامٍ عِذاب وليال قصرتها مُتَعُ الصِّبا ولهوُ الفتوّة إلى غير ذلك.
ولعلّهم جرَوا على ابتداء قصائدهم بهذه المعاني وتقديمها على الغرض المقصود بالشعر لتحريك القرائح الراكدة، وإيقاظ الشاعرية الراقدة، وتنبيه الأذهان التي قد تغفو، واقتياد الأفكار التي قد تعزب؛ ولما كانت هذه المعاني معروفة لديهم، معبدة طرقها لهم، محفوظاً أكثرها عندهم، كانت تجربة قرائحهم فيها أيسر، وتنشيط شاعريتهم في ميدانها أسهل، كما يجرب الجواد بإجرائه شوطاً قبل الانتظام في الحلبة، وكما ترى أرباب الموسيقى إذا قصدوا إيقاع إحدى النغمات، أوقعوا على الأوتار ما يقاربها من النبرات حتى يسَهل عليهم الخروج منها إلى النغمة المقصودة.
أما روعة هذه المعاني في قصائد الذكريات إذا نزلت بالشاعر محنةٌ من سجن أو إسار، فأنا أذكر لك أمثلة منها لقلتها وانتثارها في كتب الأدب، وصعوبة الظفر بها في دواوين العرب، وأكثرها من شعر لصوص البادية والمُغيرين على أموال القبائل وهم أفصح العرب شعراً، وأصرحُهم عربية؛ وكان بعض علماء الأدب المتقدمين وأحسبه الأصمعي يقول:(إذا أتاك بيت لصّ فاحتفظ عليه) وذلك لإخلادهم إلى سكنى البادية، وعدم اتصالهم بالحضر.
ومن أحسن ذلك شعر عبد يغوث بن وقّاص الحارثي، وكانت تيم قد أسرته وشدّوا لسانه، فقال من قصيدة
ألا لا تلوموني كفى اللوم ما بيا ... فمالكما في اللوم خيرٌ ولا ليا