والدين فكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، وكان إذا ولي أحداً من قضاتِه كان فيما يعهد إليه إلا يقطع أمراً ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم طول مدته، فمعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم. وفي ذلك يقول ابن البنّي - شاعر أندلسي سنترجم له: -
أهل الرياء لبستمو ناموسكم ... كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتمو الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتو الأموال بابن القاسم
وركبتمو شهب الدواب بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
(ابن القاسم وأشهب واصبغ هم من أئمة مذهب الأمام مالك الذي كان المذهب الوحيد المعمول به في المغرب والأندلس إلى أن يقول: (ولم يكن يُقرَّبُ من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من عَلِمَ عِلْمَ الفروع أعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وَحديث رسول الله (صلعم) فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء. ودانَ أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شئ من علوم الكلام - التوحيد - وقرّر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شئ منه، وانه بدعة في الدين وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد، في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شئ منه، وتوعد من وجد عنده شئ من كتبه. ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد حتى سفك الدم واستئصال المال إلى من وجد عنده شئ منها. وأشتد الأمر في ذلك؛ ثم قال: ولم يزل أمير المسلمين من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك، كأبي القاسم بن الجد، وأبي بكر محمد المعروف بابن القَيْطُرْنه، وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال وأخيه أبي مروان، وأبي محمد عبد المجيد