ولم أكن أعرف أن (نابغة القرن العشرين) من المجانين الذين لهم أذن في غير الأذن، وعين في غير العين، وأنف بغير الأنف؛ إذ تتلقى أدمغتهم أصواتا وأشباحا وروائح من ذات نفسها لا من الوجود، وتدركها بالتوهم لا بالحاسة، فتتخلق هواجسهم خلقا بعد خلق، وتخطر الكلمة من الكلام في ذهن أحدهم فيخرج منها معناها يتكلم في دماغه أو يمشي أو يلاطفه أو يؤذيه أو يفعل أفعالا أخرى
وبينما أنا أدير الرأي في إخراج فصل تمثلي من الحوار بين هذين المجنونين، إذ قال (نابغة القرن العشرين): صه، إن جرس (التلفون) يدق
قال ا. ش: لا أسمع صوتا وليس ههنا تلفون
فاغتاظ المجنون الآخر وقال: إنك تتقتحم على النوابغ ولست من قدرهم، وما عملك إلا أن تنكر، والإنكار، ويلك، أيسر شيء على المجانين وأشباه المجانين، والعامة وأشباه العامة؛ وقد أنكرت نبوغه آنفا وأراك الآن تنكر (تلفونه). . . . .
قال ا. ش: وأين التلفون وهذه هي الغرفة بأعيننا؟
فضحك (نابغة القرن العشرين) وقال: صه ويحك لقد خلطت على؛ إن الجرس يدق مرة أخرى وأنا لا أريد أن أكلملها حتى يطول انتظارها، وحتى تدق ثلاث مرات، وأخشى أن تكون قد دقت الثالثة وذهب رنينها في صوتك ولغطك
قال المجنون الآخر: هي صاحبته التي يهواها وتهواه؛ وقد استهامها وتيمها وحيرها وخبلها حتى لا صبر لها عنه، فوضعت له تلفونا في رأسه. . . . . . . . .
قال (النابغة): وهذا التلفون لا يسمعني صوتها فقط، بل ينشقني عطرها أيضا. وقد تكلمني فيه الملائكة أحيانا، وأنا ساخط هذه الحبيبة فأنها غيور تخشى سطواتها على اللاتي تغار منهن؛ ولولا ذلك لكلمتني في هذا التلفون إحدى الحور العين. . . قلنا: أو تغار منها الحور العين؟
قال المجنون الثاني: بل الأمر فوق ذلك، فان الحور العين يشتمنها ويلعنها؛ (فمما حفظناه) هذا الحديث: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله؛ فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا
قال (نابغة القرن العشرين): ويلي على المجنون! إنه يريد أن يخلوا له موضعي فهو يتمنى