يسهل عليه إذابتها ثم صنعها ثانية على الغرار الذي يريد. وكان أول من لفت نظره إليه من الطلبة: عبد العزيز؛ فقد أعار سلوكه اهتمامه وعنايته، وراح يرهبه ويعالج تأديبه وتهذيبه بالعصا. وأذكر أن طالبا من أبناء الضباط الذين جاءوا بغداد في أواخر أيام الحرب من البلاد الشمالية، سفهه ذات يوم ثم عيره بالعامية والفقر، فقابله بالصفع والضرب الموجع المهين، فما كان نصيبه من المدير إلا الإهانة و (الطرد). وبذلك أسدل الستار على حياته المدرسية، وألجئ إلى التشرد والعطلة! وا أسفاه!!
ولقيته بعد ذلك فألفيته جزعا، وقص علي قصة النزاع بينه وبين ذلك الطالب - ولا أذكر أسمه الآن - قال:
(غادرت البيت صبحا وأنا كئيب محزون، لأن أمي التي لا تفتأ تذكر أخي الجندي ليلا ونهارا بالحسرات والدموع، وأبي المقبل على أخرته غير آسف على شيء في الدنيا، وهو يحبه حبا جما، لم يصل إليهما كتاب منه منذ شهر وبعض شهر. فأفرغ ذلك صبرهما بل أفقدهما الرشد. وإذ كنت أمشي في الشارع فاجأني خمسة من الشرط يعدون وراء رجل علمت من بعد أنه جندي هارب. وصرخ أحدهم قائلا: (خائن! قف!) ثم أطلقوا عليه الرصاص من بنادقهم فأردوه. وسقط تعبا جريحا يلهث وعيناه تنظران إلى السماء. ووقفت على مقربة منه أنظر إليه في لهفة وفرق؛ وهو ملقى وقد اصفر لونه وجللت وجهه سحابة من قتر الطريق، وتشنجت أعصابه من الخوف، وأقبل الشرط يتراطنون يريدون أن يحملوه. . . أعرضت عن هذا المشهد الذي آلمني أشد إيلام وانصرفت صامتا، ولحظت أن الشمس تملأ الأرجاء نورا، فعرفت أنني تأخرت عن موعد الدرس الأول. وكنت أمشي متباطئا ذاهلا، فما انتبهت إلا وأنا على باب غرفة صفي. . . طرقت الباب طرقا خفيفا مرة فمرتين وحاولت الدخول فجابهني المعلم ناهرا إياي بقوله:(أخرج، أخرج، اندفع يا حمار!) أو كنت حمارا فيإسطبل أبيه؟! وكنت حتى حين خروج الطلبة في الصف إثر الفراغ من الدرس ثائرا مهتاجا، فلقيني ذلك النذل فلاغاني فلكمته، وماذا كان يجب على أن أفعل؟ وسحقا للمدرسة بعد أن ينالني من هؤلاء فيها أذى)
وقال صديقي إبراهيم وقد حدثني بحديثه هذا بعد انتهاء الحرب ومرور سبعة أعوام على نهايتها: