في أيامه الماضية عدة وخلقا، والذي لم يستعن أحدا من صحبه يوما لو وجدته الآن لمد لي ولأمثالي يده في إبداء حاجة واستعانة مهما كان معسرا تنقض ظهره الشدة والفاقة؟ كلا. أنا لا أحسب ذلك؛ بل أحسب أن تلك الفترة من أيام مراهقته وفاتحة شبابه، كانت مقدمة وعنوانا لما كان مقبلا عليه من أيام شبابه ورجولته)
ثم سكت وسكت
وبعد شهرين أو ثلاثة أقبل علي يزورني في داري، وما عتم أن راح يحدثني عن رفيق صباه عبد العزيز الذي عثر به آخر الأمر فقال:
(ولقد وجدته آخر الأمر وصافحته. . . ولكن أين؟ احزر أين وجدته؟ في السجن! ولا تستغرب؛ فقد ذهبت يوم الجمعة - أمس - إلى هناك لأزور صديقي الصحافي عبد الصمد الذي سجن متهما بنشر ما لا تجيز الحكومة نشره، وإذ كنت أدخل الحجرة التي يسمح بمقابلة السجناء فيها ألفيتني أمامه وجها لوجه. وكان يكلم زائرا غريبا يرتدي بزة العامة، ربما كان صديقا له. ولم أعرفه إلا بعد تأمل فيه قليل، لأن سحنته قد غيرتها السنون؛ وحييته فحياني وبسم لي، ثم سألني (أو قد نسيتني يا إبراهيم يا حبيبي؟ يا رفيق الأيام الحلوة التي لن تعود! وهل نسيني علي كذلك؟ وكيف هو؟. . . الخ) ودمعت عيناه من شدة الفرح بلقياي، وكان طليقا جريئا، كما كان في المدرسة، في محادثته السجانين وصاحبي الصحافي عبد الصمد الذي لم يكن يعرفه من قبل، ورأيت أن لهجته في الكلام أصبحت عامية سوقية خالصة، تميزها التعابير والألفاظ التي تجري - عادة - على ألسنة هؤلاء الذين عرفوا بفعال (الشقاوة) - كما نسميها - التي تظهر فيها، في أغلب الأحيان، شجاعة نادرة في غيرهم و (أريحية) ونجدة وكرم على فقر، وجرأة في احترام الجرائم، وكراهية شديدة لكل من يمت إلى الأجنبي الغاصب بصلة باقية من عهد الاحتلال المظلم، على ما تعرف. ولا أدري كيف أدركت أنه محكوم عليه بعقاب السجن لإجرامه جريمة قد لا يفخر المرء بها عندنا، فلم أشأ أن أسأله عما أدى به إلى حاله تلك. ومن الغريب أنه لم يكن يرى في أمره غرابة؛ وكأنه كان معلوما عندي ما اجترم فلم يخبرني به؛ وسرعان ما راح يودعني، إذ كانت الفرصة المسموح بها لزيارة المسجونين ضيقة جدا، متمنيا أن يلاقيني عقب خروجه من السجن، و (أن يكون تحت النظر) على حد تعبيره الشعبي الرمزي