الجميل، (فأنه لا يزال على وده القديم، وذلك الصاحب الذي لا ينسى الصحب على طول الزمان، ولا يرضى عن الوفاء بديلا). وترك المجلس لي ولصاحبي منصرفا عنا في لباقة وحسن أدب، كما ينصرف الواحد منا عن أثنين لديهما سر، ولم يكن لدينا - في الحقيقة - سر غير أمره. فأنني كنت في أشد الشوق إلى سماع قصته، وبتعبير أوضح أحجمت عن سؤاله عما أدخله السجن ساعة لقيته لكي لا أجرح منه شعورا طالما كنت أقدره، بل أقدسه في أيامنا التي خلت، في أزهى زمان وأحلاه، زمان الدرس والتحصيل. وقال لي عبد الصمد:(هذا فتى باهر الخصال يا أخي، ولا أرى فائدة في أن أقص قصته عليك في إسهاب وتفصيل، فهو الآن مجرم محكوم عليه بالسجن ثلاث سنين لأنه جرح رجلا من الأجانب، كان يحترف عملا فنيا لدى شركة أجنبية في البصرة؛ وكان عبد العزيز (يشتغل) هناك بيده كعامل لا شأن له، ورئيسه ذلك الأجنبي، على أنه كان شخصا مخيفا بين العمال، خشن الطباع، شرسا، كذلك قالوا عنه. وليس في حادثته التي طوحت به إلى السجن ما يستغرب منه ومن أمثاله في العراق اليوم، فقد انتهره الأجنبي ذات يوم، وشتمه وأهانه، لأنه أخطأ في عمله بعض الخطأ، فما كان منه إلا أن قابل إهانته إياه بطعنه بمديته، فجرحه، ولم يصب منه مقتلا. انتهت قصته. أما هو فما يزال يذكر الحادثة غير مكترث به صار إليه من جرائها، فهو يرى لها سببا من أسباب التفاخر بالجرأة والشجاعة، ولا سيما أن المجني عليه أجنبي من بقايا الذين جاءوا في الحرب في (الحملة) على العراق، وهو يقول لنا عنه في سذاجة ويكرر قوله مرارا:(ليته كان من أبناء أمتنا أمثالي، إذن والله لما جرحته، لما جرحته)، فانظر إلى رقة شعوره وشدة كرهه للأجانب الذين أرهقوا البلاد في الحرب الاستعمارية الكبرى وبعدها. . . والعبرة ليست فيما حدثتك، بل فيما أرى عند هذا العبد العزيز الذي لقبوه في السجن بأبي جاسم كما يلقب العراقيون عادة فتيانهم ذوي (الأريحية) والنجدة والشجاعة، مجرمين كانوا أو غير مجرمين، من فلسفة القوة والأمل والتفاؤل والاستهزاء بصروف الحياة، فأنني - وقد خصني بصداقته وترحابه منذ أن دخلت السجن - قد أسفت على حالي كثيرا، وطالما اسودت الدنيا في وجهي يأسا وتشاؤما، فلا أكاد أسمع نصائحه الساذجة في ظاهرها، وضحكاته ذات الرنين العالي، وأغانيه الشعبية التي يرسلها من نفس زاخرة بالأحلام والآمال، حتى تتفرج نفسي من اليأس، وتبدد عني