لحوم البشر، فكان مصيره الأليم لا شك فيه، إلا أن شيخ القبيلة أراد أن يستجوبه طويلا عن حرفته، وعن الغاية المقصودة من رحلته، فلما سأله في ذلك أجابه المسكين وعيناه الزائغتان تنظران إلى معدات الوليمة: أنا لست إلا صحافياً متواضعاً يا مولاي العظيم. فقال له الشيخ: صحافي؟ تريد أن تقول انك مدير جريدة؟ فأجابه: أوه! كلا يا مولاي القادر ما أنا إلا وكيل حقير، فقال له اطمئن ايها الرجل الأبيض! سترقى بعد أن نصنع منك الحساء إلى مدير!!
كانت هذه النوادر المضحكة تستهوي ألباب القراء، ولكن أخاه (أوريون كليمانس) كان لا يجد لها مذاقاً ويرجو منه ألا يستمر فيها. على أن صمويل لم يحرص على البقاء في الجريدة، فقد كان نزوعاً بطبيعته إلى الاستطلاع والنقلة، ولكن افلاسه كان يحول بينه وبين قضاء هذه النزعة. وقد طلب من أمه أن تقرضه خمسة دولارات فأبت عليه ذلك حتى لا تشجع فيه هذه النزعة التي تحسبها نوعاً من التشرد والصعلكة؛ فاضطر إلى أن يتذرع بالصبر حتى يجمع المبلغ المطلوب بارة فبارة، حتى اذا ظن أنه أصبح غنياً يستطيع مواجهة العالم الفسيح فر في ليلة من الليالي يريد (أن يحيا حياته) على حد تعبيره، فكسبه الترحال والتجوال ثروة في اختباراته، ووفرة في انطباعاته، أفادته كثيراً فيما بعد حين تكتشف مواهبه النادرة عن الكاتب النابه (مارك توين)
- ٢ -
على أن من النادر أن تأتي الشهرة والنباهة دفعة واحدة، فقد كان أول الطريق على صمويل وعراً، طوّف في البلاد ما طوّف حتى بلغ نيويورك، فأتقن فن الطباعة، ثم ارتد إلى هانيبال، وكان عمره إذ ذاك ثمانية عشر عاماً؛ وكان أخوه في غضون ذلك قد تزوج وأصبح مديراً لإحدى المطابع، فصار صمويل عاملا من عمالها، ولكنه كان قد تذوق الحرية وقرأ كثيراً من كتب الرحلات، فما كان يحلم إلا بانتجاع أمريكا الجنوبية على ضفاف الأمازون؛ وكان للمصادفة مرة أخرى يد بيضاء في توجيه الشاب الحالم. فقد عثر ذات يوم في الطريق على ورقة مالية من ذات الخمسين دولارا، ولما لم يجد لها طالباً في الصحف احتفظ بها وعاد من جديد يضرب في الأرض. سار على ضفاف المسيسبي منحدرا مع مجراه حتى بلغ بعد خمسة عشر يوما (أوليان الجديدة)، وهنالك أدركته خيبة