عثمان القاشاني الملقب بذكرويه في جنوب العراق، ولبث حينا يبث دعوته سرا وخفية؛ وتلاه تلميذه وصاحبه (قرمط) مؤسس المذهب الحقيقي يبث الدعوة جهرا، ويدعو إلى إمام من آل البيت هو المهدي الذي يظهر فيملأ الأرض عدلا، فلما ذاع أمره قبض عليه عامل الكوفة وألقاه إلى ظلام السجن، ولكنه استطاع أن يفر من سجنه في ظلام الليل بمساعدة جارية للحاكم؛ وكان هذا الداعية الجريء يدرك سر الخفاء وفعله في نفوس الكافة فاختفى على أثر فراره حينا، وألقى في روع أنصاره أنه رفع إلى السماء فازدادوا به فتنة؛ ثم ظهر بعد ذلك وكأنه قد بعث، ثم فر إلى الشام ولم يوقف له على خبر بعد ذلك، فكان هذا الاختفاء في ذاته عاملا في ذيوع الدعوة القرمطية واضطرامها.
ورأى الفرج بن عثمان أو ذكرويه أن يخوض أيضا غمر الخفاه، ليحدث مثل الأثر الذي أحدثه اختفاء قرمط، فنزح إلى القفر وتوارى عن الأنظار في مكان ناء، في مغار أنشأه لذلك، واستخلف أولاده للدعوة، ولبث أعواما طويلة يعمل ويدبر الخطط من وراء ستار، ويوجه أكابر أنصاره وخاصته حتى اشتدت دعوة القرامطة بعد قتال رائع، وجرح ذكرويه وأسر، وحمل إلى بغداد حيث توفى من جراحه بعد أيام، ومثل بجثته أشنع تمثيل (سنة ٢٩٤هـ) بيد أن فورة القرامطة كانت قد اجتاحت يومئذ أنحاء البحرين، واستقرت هنالك قوية منذرة، واستمرت خطرا داهما على الشام ومصر وأطراف الجزيرة حتى أواخر القرن الرابع.
- ٣ -
على أنا نجد أروع مثل للخفاء فيالدولة الفاطمية، في قيامها، وفي وسائلها، وفي خلفائها؛ فقد نشأت هذه الدولة القوية في قفار المغرب على يد دعاتها السريين وشيعتهم من القبائل البربرية المتعصبة الساذجة، وكان أول خلفائها عبيد الله المهدي شخصية خفية غامضة لم يستطع التاريخ أن يقف على حقيقتها أو يتقصى نسبتها؛ واستمر هذا الخفاء يغمر شخصية الخلفاء الفاطميين، وهذا الريب يغمر أصلهم ونسبتهم، حتى أننا نجد أشراف مصر يطلبون إلى المعز لدين الله حيث مقدمه إلى مصر أن يوقفهم على، نسبه، فيجمعهم في مجلس عام ويسل نصف سيفه ويقول لهم هذا نسبي، ثم ينثر عليهم ذهبا ويقول لهم هذا حسبي، ونجد خصوم الفاطميين ولا سيما بني يتخذون هذا الريب في نسبهم مثارا للطعن في إمامتهم وفي