ذممهم وعقائدهم مما لا يتسع المقام لبسطه؛ بيد أن هناك حقيقة تلفت النظر، هي أن الخلفاء الفاطميين، ولا سيما الأوائل منهم كانوا يزعمونعلم الغيبومعرفة الخفاء، ومما يروى في ذلك أن العزيز بالله الفاطمي صعد المنبر ذات فرأى رقعة مكتوب فيها.
بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة
إن كنت قد أعطيت علم غيب ... فقل لنا كاتب البطاقة
وذلك إشارة إلى دعواهم علم الغيب؛ وقد اتخذ تعلق الفاطميين بالخفاء واستظلالهم برموزه صورا واضحة لهم أثرها القوي في بناء الدولة الفاطمية وفي خططها ووسائلها؛ بل كان هذا التعلق بالخفاء سياسة مقررة للخلافة الفاطمية؛ فنراها منذ استقرت بمصر مجالس الحكمة الشهيرة في القصر وفي الأزهر وتعني بأن تكون هذه المجالس مبعثا لتعاليمها المذهبية؛ ثم نرى هذه المجالس يتسع نطاقها شيئا فشيا وتغدو، جزءا من نظم الدولة الروحية والاجتماعية، ونراها تعقد للنساء والكافة، وينصب للأشراف عليها رجل من أكبر موظفي الدولة هو قاضي القضاة، وينعث في هذا المنصب (بداعي الدعاة). وفي عهد الحاكم بأمر الله تتخذ الخطوة الأخيرة والحاسمة في تنظيم مجالس المحكمة، وتنظيم الدعوة السرية الفاطمية بصورة رسمية وتنشأ دار الحكمة الشهيرة، لتستأثر بتنظيم الدعوة وبثها على يد نخبة من الدعاة والنقباء (سنة ٣٩٥هـ)؛ وقد اتخذت دار الحكمة منذ قيامها صبغة مذهبية واضحة قوامها بث الروح والمبادئ الدينية الفاطمية، وكانت هذه مهمتها الظاهرة؛ بيد أنها كانت تعمل في الظلام لغاية أخرى يغمرها الخفاء، هي بث الدعوة السرية الفاطمية. ولا يتسع المقام للإفاضة في تفاصيل هذه الدعوة الغريبة ورسومها، ولكنا نقول فقط أنها كانت من أغرب الدعوات السرية المذهبية؛ وكانت موزعة على مراتب تسع يتدرج فيها الطلبة على يد الدعاة، ويدفعون تباعا إلى حظيرة التعاليم الفلسفية والالحادية؛ ويبدأ الطالب في جو من الإيمان العيق، ولكنه لا يصل المرتبة السادسة أو السابعة حتى يكون قد انحدر إلى غمر الإنكار المطبق؛ ويبدو مما نقل إلينا من تفاصيل هذه الدعوة الغريبة ومن موضوعات مراتبها، أن الغاية الأخيرة التي كانت تعمل لها الدعوة السرية الفاطمية هي هدم كل اعتقاد وكل عقيدة دينية، والانتقال بالطلبة والصحب إلى حظيرة الإلحاد المطبق والترفع عن العقائد الروحية العامة التي تؤكد الدعوة أنها لمتوضع إلا