(حاشا. . . بل خير لي ألف مرة أن أخوض غبار المعمعة، مادام لن يضيرني إلا ما حتمت المقادير عليّ. . .)
وما كاد يفيق من أحلامه حتى كان أخيل أمامه وجهاً لوجه، وعلى كتفه الرحب الهرقلي رمحه الضامئ العتيد، وفوق صدره العريض الممرد سوابغ دروعه التي سردها الإله الحداد فلكان، تنعكس عليها آلاف وآلاف من أراد الشمس فتبهر الأبصار وتخلع الأفئدة، وتذيب في الجوارح كهرباء الرعب، وتشعل في الرؤوس ضرام الشيب!!
ثم بدا له أن يلهب جياده فتفر به من وجه أخيل، ولكن إلى أين؟ إنه حيثما تولى فثم وجه أخيل!! إن أخيل غدا آلافاً لا حصر لها من الأشباح المفزعة تملأ الساحة وتكظ الهواء، وتأخذ على الطرواديين أنفاسهم!
وانطلق ابن بليوس في أثر هكتور، وأشرف عذارى اليوم يطللن من أبراج المدينة الخالدة ويمسكن حبات قلوبهن أن تثب إلى الميدان فتطأها سنابك تلك الجياد الجوامح. وكان كلما أغذّ هكتور أوخف أخيل في أثره، فكانا كالأبردين: لا الليل يدرك النهار ولا النهار يستأنى فيدركه الليل، حتى نال منهما الجهد، وتفزعت الآلهة في علياء الأولمب إشفاقاً على ابن بريام العظيم، ورثاء لابن بليوس المتهدج، ورحمة لهذه الأرض لتضرجه بدماء الشهداء
وهم سيد الأولمب أن ينقذ هكتور لولا أن أقنعته ابنته، مينرفا ربة الحكمة والموعظة الحسنة، فنحّته عن طريق الأقدار وأخلت بين أخيل وخصمه. . .
وطافا حول طروادة ثلاثاً، وما كادا يبدآن طوافهما الرابع، حتى قبض زيوس إليه ميزان القدر، فهوت كفة الحق بقتل هكتور، وأربد وجه أبوللو وسقط في يده، وانطلق يضرب أخماساً لأسداس. . .!
وأسرعت منيرفا إلى أخيل تزف إليه بشرى السماء، وآثرت له أن يتلبث مكانه يستجم نشاطه، ويتنفس الصعداء، حتى تذهب هي إلى هكتور تغريه بلقاء خصمه، وتنفره من هذا الفرار الذي أضحك منه قيان إليوم وحسانها. . .